الرأيالمجتمع

صناعة الإلهاء: الكرة من لعبة فرجوية عابرة إلى شبه ديانة مقدسة موسمية

  • بقلم امحمد القاضي //

لا من رياضة حصدت عبر التاريخ الإنتباه الجماهيري الغفير عبر العالم، وصرفت حولها أموال طائلة بتنافسية دولية ورضى شعبوي منقطع النظير، كما صنعته كرة القدم كونيا.

إنتبه كبار صناع القرار عبر العالم للشعبية والمتابعة والشغف الجماهيري الكوني، والإهتمام الذي تحصده لعبة كرة القدم خلال فترة زمنية لحد شلل الحركة وتوقف الأنفاس، وحولوها إلى ديانة جديدة مقدسة عبر وسائل تواصلية معقدة ومنصات دعائية مغرية.

صنعوا لها أبطال كآلهة وأصنام توزع عليهم عائدات مالية خيالية، وتقدس طلعتهم الجماهير، وتردد وتتيمن بأسمائهم أجيال. وخلقوا قوانين متجددة لإطالة التشويق، وفرخوا فرق عديدة وكتفوا الدوريات الإقليمية والمنافسات العالمية ورسموا الرموز على الجدران والقماش، وحددوا لها موقع مميز في المخيال والتمثلات الجماعية وجعلوا الإهتمام بها جزء من الوطنية وحب البلاد، وعدم المشاركة في الفرجة شبه خيانة لقضية كبرى.

تحولت اللعبة إلى شبه ديانة والمنافسات لموسم حج دوري يعتبر من حصل على تذكرة دخول الملعب في المبارات الحاسمة كفائز بمقعد في مكان مقدس.

قيل أن “الدين أفيون الشعوب”، لا لروحانيته ولا لمعاكسة وجود الإلاه ووحدانية الخالق، بل لقدرة الأديان الخارقة على تحويل الأنظار وتهديب التفوس، وجمع الناس والشعوب المختلفة والبعيدة جغرافيا وثقافيا حول قضية، وتوحيد ما فرقته الحدود، والتقاليد وشتته السياسات وإختلفت حوله الرؤى. هكذا أصبحت قوة كرة القدم.

قديما إهتدى قادة الرومان إلى ما يهوى جماهير روما القديمة بكل طبقاتها الإجتماعية. وبنوا “الكوليسيوم” الضخم الذي ما زال يبهر الزوار بعظمة تصميمه ومعماره. شيدوا المسرح الروماني المفتوح كأعظم مجمع بشري عبر التاريخ، الذي أصبح من اكبر المآثر السياحية والتاريخية بروما إيطاليا الحديثة.

يجمع داخله القيصر أسبوعيا كل فئات الشعب، كقديس ديني وطقس من الطقوس التقليدية الدورية، ليشاهدوا إقتتالات دموية بين أبطال مساجين وعبيد تدربوا على المواجهات الجسدية ومصارعة حيوانات مفترسة. الفرجة تروي العطش الشعبي للإقتتال وتوهم الجماهير بالنصر وتلهيهم عن بؤسهم وثرف القيصر وحاشيته.

لاداعية للغرابة، هكذا كان الحال في روما القديمة، وهكذا أصبح العالم بشكل أكثر تحضرا، ولطفا ودهاءا وبتقنيات متطورة وآليات معقدة قدست الكرة وغرست حبها في قلوب ملايين الجماهير عبر العالم.

في الماضي القريب، تمنينا إحتضان المغرب لنهائيات كروية عالمية. حضرنا وأقنعنا العالم اننا نستحق إحتضان نهائيات التظاهرات الكروية كشعب وكدولة وحضارة وموطن اللعبة.

قمنا بما يلزم الإستعدادات لإحتضان المنافسات لسنوات، بعد تشييد بنايات ضخمة بالملايير لإحتواء آلاف الجماهير للحظات معدودة ولإحتضان مقابلات تدوم ساعات قصيرة وأيام محدودة. المحطة الكروية القارية والكونية إقترضنا من أجلها من البنوك المانحة قروض ضخمة، ورصدت لها ميزانيات حكومية هائلة قد تستنزف إقتصاد البلاد وترهن الموارد المالية والعائدات من العملة الصعبة لعقود من الزمن.

لا يهم، إحتضان بلد للمنافسات الرياضية الجماهيرية القارية والعالمية يعتبر مكسب وطني وعربون عن حسن تدبير لسياسية خارجية وقدرة المسؤولين على الإقناع وحشد أصوات في المحافل الدولية، وكسب ثقة الآخرين في مؤهلات البلد وبنياته التحتية وحجم طاقته الإيوائية، وتمتع البلد بالأمن والأمان، وسعة صدر وتسامح شعبه. وأقنعنا مواطنينا بأهمية الأحداث وأولوية المحطات الكروية.

إنه إنتصار سياسي أكثر منه رياضي. إنتصار يوغض الجيران والأعداء ويفند إدعاءاتهم، ويظهر للعالم أننا إستثنائيين من جميع الجهات. أملنا جميعا، او هكذا سوقت لنا. اننا سنجني من وراء اللعبة مكتسبات مهمة، عائدات مالية ضخمة سيتنفع منها البلد، وستفرج همومنا وتحل مشاكلنا الإقتصادية والإجتماعية، وتغير من أحوالنا في السهول والجبال. فإنتظروا إنا معكم من المنتظرين لما بعد 2030.

من جهة، الترويج السياحي لمؤهلات البلاد الطبيعية وتنوعه الثقافي والهوياتي وعراقة موروثه التاريخي وتماسك شعبه بكل أعراقه وأطيافه. صناعة كرة القدم قوة ناعمة تقضى بها أغراض أخرى في ظرف زمني وجيز ومكتسبات قد تعجز كل اللقاءات الدولية أن تحصده.

من أجل كل هذا وغيره سنحتضن المنافسات، سنتفرج على مقابلات منتخبنا، سنتسابق على الكؤوس، ونلوح بالأعلام الوطنية، ونلبس اقمصة بأسماء لاعبينا، ونبهر العالم لشهر من الزمن على أننا أحسن بلد في العالم.

من جهة أخرى، من حق عقل سليم أن يتساءل. هل من الصواب ان تستنزف الكرة كل هذه الطاقات والموارد لبلد نامي لفرجة عابرة وفترة قصيرة؟ هل من المقبول أن نشيد ملاعب بطاقات إستعابية هائلة تفوق إمكانياتنا من أجل فرجة عابرة وستظل فارغة لفترات وستظل تمتص مصاريف الصيانة؟

حين يراهن الشاب على القدم والنجم الكروي كقدوة على للترقي الإجتماعي ويترك القلم، فيصيبها أفراد معدودة ويفشل الملايين في بلوغ القمة، فإننا نرسل رسالة مبطنة للناشئة انك انت الفاشل، وليس سوء تدبير سياسي، وإنهيار إختيارات إستراتيجية وسقوط منظومة تعليمية مهترئة.

من المعقول أن نطور البنبات التحتية، ونزين الحواضر ومراكز إحتضان المقابلات. وهل من الصواب ان نؤجل بناء الإنسان ونحول الأنظار لفترة ونعيد ترتيب الأولويات. وندخل تطوير التعليم العمومي وتقوية الخدمات الصحة وقهر الفقر وضعف القدرة الشرائية وتقليص الفوارق المجالية والإجتماعية قاعة الإنتظار في إنتظار آخر صافرة النهاية.

لا احد يعادي الرياضة كممارسة والحق في الفرجة والترويح عن النفس لن يختلف حوله إثنان. لكن ان تصبح قضية وجودية، وينقلب الترفيه لأداء الهيمنة وإيديولوجية معاصرة كونية تشكل الوعي الجمعي وترهن اولوياتنا وتحول تراتبية إختياراتنا لتتصدر الإهتمام وما دونها ينزل للمرتبة الثانوية والهامشية ويمكن تأجيله. هنا قد نتساءا من الرابح والخاسر الأكبر؟

فرحة وغضب المدرجات حدث عابر وتفريغ لهواجس، وطنية إرتداء القميص سطحية تنتهي عند الخسارة ولا تحمل روح التضحية والشعور العميق يالإنتماء، صياح المقاهي إسقاط لإنفعالات لحظية.

هل فعلا سنصنع التاريخ بالفوز، أم أن التاريخ الحقيقي تصنعه طاقات أكاديمية وقدرات علمية وصناعية ونتائج أبحاث مخبرية في مواقع أخرى خارج المدرجات؟

على أي حال، سننضبط وسنحول إهتماماتنا وتفكيرنا مؤقتا للملاعب، وسنشد الرحال للمشهد الكروي لنشجيع فريقنا الوطني، سنهتز فرحا، ونتوثر غضبا ونتلمس رؤوسنا عند كل عارضة ونضع أيادينا على قلوبنا لمدة 90 دقيقة في كل مقابلة.

وسنعلق آمالنا وأمانينا وآلامنا لما بعد نهاية الكأس لنرى من الخاسر والرابح. فهل ستصلح الرياضة ما افسدته السياسة؟

          

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى