
حديث الأربعاء: اللاجئون…زمن الانتقاء..
- عبد الرفيع حمضي //
بعض اللقاءات الدولية تمرّ بهدوء ومن دون ضجيج، لكنها في صمتها تحمل أسئلة أثقل من البيانات الختامية. واحد من هذه اللقاءات هو المنتدى الرفيع المستوى المنعقد ما بين الخامس عشر والسابع عشر من هذا الشهر بجنيف، والمخصّص لمراجعة وتقييم الالتزامات المنبثقة عن المنتدى العالمي للاجئين.
وبذلك، فهو اجتماع منتصف الطريق بين محطة 2023 وموعد 2027، ويُفترض فيه أن يكون لحظة مكاشفة أكثر منه لحظة احتفاء. إذ لا يُناقش فيه مستقبل اللاجئين فقط، بل تُختبر أيضًا صدقية النظام الدولي الذي تعهّد، منذ عقود، بحمايتهم.
فالعالم اليوم لا يفتقر إلى الاتفاقيات، ولا إلى اللغة الحقوقية، وإنما يعاني من تعب جماعي في تحمّل كلفة التضامن، ناتج بدوره عن تراجع ملموس في الإرادة السياسية. فأعداد اللاجئين في ارتفاع مستمر، بينما تتقلص الموارد وتضيق مساحات الاستجابة.
وبذلك، لم تعد قضية اللجوء تُطرح بوصفها التزامًا أخلاقيًا عالميًا، بل ملفًا ثقيلًا تُدبَّر تداعياته بدل البحث في جذوره.
ويزداد هذا الشعور بالارتباك مع نهاية ولاية المفوض السامي الحالي لشؤون اللاجئين، فيليبو غراندي، والاستعداد لتعيين الرئيس العراقي السابق برهم صالح على رأس المفوضية.
ولعل دلالة هذا الاختيار تكمن في أن هذه المرة قد يقود المؤسسة الأممية شخص آتٍ من فضاء عايش اللجوء أكثر مما موّله.
غير أن هذا التحول الرمزي يأتي في توقيت صعب، إذ تواجه المفوضية أزمة مالية غير مسبوقة.
فسحب دونالد ترامب للدعم الأمريكي، الذي كان يشكّل نحو أربعين في المائة من ميزانية المفوضية، لم يكن مجرد تعديل تقني في التمويل، بل هزّة حقيقية في بنية النظام الإنساني.
وما يثير القلق أن هذا السحب لم يُقابل بأي تحرك جماعي جدي من الاتحاد الأوروبي أو من باقي المانحين الكبار. فباستثناء تصريحات عامة تؤكد الالتزام بالمبادئ الإنسانية، لم تُسجَّل مبادرات مالية استثنائية أو آليات تضامن عاجلة، وكأن الأمر يتعلق بظرف عابر لا بأزمة بنيوية تمس جوهر النظام الدولي.
في المقابل، كشفت تجربة اللاجئين الأوكرانيين أن أوروبا، حين تتوفر الإرادة السياسية، تكون قادرة على التمويل، وعلى فتح الحدود وتفعيل آليات حماية سريعة وفعّالة، شملت الإقامة والعمل والتعليم.
غير أن هذا السلوك، على أهميته الإنسانية النبيلة، أعاد إلى الواجهة سؤال المعيار: هل التضامن مبدأ كوني ثابت، أم استجابة ظرفية تحكمها الجغرافيا والقرب السياسي؟
فالمرجعية الاممية واضحة. إذ قامت الاتفاقية الدولية للاجئين لسنة 1951 على حماية الإنسان من الاضطهاد دون تمييز في الأصل أو العرق أو الجغرافيا. غير أن المسافة بين نص الاتفاقية وتطبيقها اليوم تكشف عن ممارسة انتقائية متزايدة.
في كلمته الافتتاحية، بدا المفوض السامي أقرب إلى شاهد قلق منه إلى مسؤول يغادر منصبه. فحديثه عن اللاجئين، والنازحين، وعديمي الجنسية، لم يكن توصيفًا إحصائيًا بقدر ما كان تشخيصًا لأزمة ضمير.
أما عندما انتقل إلى إفريقيا، فقد كان واضحًا أن القارة تتحمل عبئًا يفوق إمكاناتها، قبل أن يصف ما يجري في السودان، بعبارة نادرة في الخطاب الأممي، بأنه «وصمة عار في جبين الإنسانية».
وكذلك فقد استحضرت النقاشات داخل المنتدى بقوة معاناة اللاجئين الفلسطينيين، باعتبارها واحدة من أقدم وأعقد قضايا اللجوء في العالم؛ قضية تتجدد فصولها مع كل تصعيد، وتكشف حدود المقاربة الدولية حين يتحول اللجوء إلى حالة دائمة، دون أفق سياسي.
وفي خضم هذا النقاش، تقفز الأرقام لتفكيك صورة شائعة في الرأي العام. فاللاجئون لا يتجهون، في غالبيتهم، إلى الغرب . ففي سنة 2025، استضافت كولومبيا نحو 2,8 مليون لاجئ، وتحتضن تركيا قرابة 2,7 مليون، فيما تستقبل أوغندا حوالي 1,9 مليون لاجئ، ناهيك عن لبنان والأردن وموريتانيا. وهي دول ليست من الأغنى عالميًا، لكنها تتحمل العبء الأكبر من اللجوء، في صمت، وبموارد محدودة.
منتدى جنيف، إذن، ليس مجرد محطة تقييم تقنية، بل مرآة لنظام دولي يعيش تناقضه الداخلي؛ نظام يعرف ما ينبغي فعله، لكنه يتردد في دفع ثمنه.
و«زمن الانتقاء» الذي يحكم اليوم ملف اللاجئين لا يهدد فقط مصداقية التضامن الدولي، بل يقوّض أحد أسس النظام الإنساني
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News



