المجتمع

عائشة ببو: “التقاعد بالنسبة لي ليس وداعًا، بل هو مرحلة انتقالية في التنمية الذاتية” (حوار)

  • حاورتها سميرة مقتحم //

تقديم :  نلتقي في هذا الحوار مع الاستاذة عائشة ببو متخصصة في مجال التنمية الذاتية، وهي  من مواليد سنة 1969 بمدينة خريبكة حيث درست المرحلة الإبتدائية انتقلت العائلة بعدها إلى مدينة أولاد تايمة حيث أكملت دراستي الإعدادية والثانوية، ثم بعد حصولي على الباكلوريا آداب عصرية أكملت دراستي بجامعة ابن زهر بمدينة أكادير وحصلت على الإجازة في شعبة اللغة الفرنسية . التحقت بعدها للمدرسة العليا للأساتذة حيث قضيت سنة من التكوين لأعين بعدها أستاذة للغة الفرنسية ثانوي تأهيلي. اشتغلت بمؤسسات تعليمية في كل من مدينة إغرم , تارودانت , أولاد تايمة ومدينة أكادير التي أنهيت فيها مسيرتي المهنية بثانوية محمد الزرقطوني حيث أحلت على التقاعد النسبي سنة 2025 .

 كيف جاءت فكرة التخصص في مجال التنمية الذاتية والدخول في عالم التأطير والتكوين في هذا المجال؟.

الأمر لم يبدأ بلحظة واحدة، بل بدأ بوعي داخلي يتسلل ببطء، مثل ضوء يفتح نوافذه تدريجياً. كنت أشتغل لسنوات وسط المتعلمين، وأعايش يومياً تلك المسافة الصغيرة التي تفصل بين القدرة والرغبة، بين الذكاء والإرادة، بين من يعرف ومن يستطيع. شيئاً فشيئاً أدركت أن المشكلة ليست في الدروس ولا في المناهج، بل في الإنسان نفسه: في ثقته، في تنظيمه، في تصوره لذاته، وفي الطريقة التي يتعامل بها مع تحدياته.

هذا الإدراك كان أول خطوة. أما الثانية، فكانت إحساسي بأن لدي ما أقدّمه خارج حدود القسم… كنت أرى في كل حوار مع طالب أو معلّم شرارة تغيير صغيرة، وأشعر بأن الإصغاء الجيد قد يفتح باباً، وأن كلمة موجهة بإحساس حقيقي قد تُغيّر اتجاهاً كاملًا في حياة شخص ما.

ومن هنا بدأت الرحلة… أقرأ، أبحث، أتعلم، وأكتشف أن التنمية الذاتية ليست “مجرد مجال”، بل عالم كامل يلتقي فيه العلم بالتجربة، والقلب بالعقل. عالم يسمح لك أن تكون مرآة لنفسك أولا ثم مرآة للآخرين، وأن تساعدهم على رؤية أجمل ما فيهم.

ومع الوقت، تحولت الحاجة الداخلية إلى قرار مهني: أن أدخل مجال التأطير والتكوين، لا بصفته وظيفة، بل باعتباره امتداداً طبيعياً لمساري، وباعتباره مسؤولية تجاه كل من يبحث عن فرصة ليقف من جديد، أو ليفهم ذاته، أو ليخطو خطوة نحو حياة أكثر وعياً واتزاناً.

اليوم، حين أنظر إلى الطريق الذي قطعته، أكتشف أنني لم أختر هذا المجال فقط , ربما هو من اختارني منذ البداية، وأنا فقط استجبت للنداء حين أصبحت مستعدة لسماعه..

هل التقاعد النسبي في قطاع التعليم المدرسي نهاية المسار المهني أم بداية لافاق جديدة بالنسبة لك ؟

بالنسبة لي، التقاعد النسبي ليس خط النهاية، بل لحظة انطلاق جديدة. سنواتي في الفصل كانت مدرسة للحياة قبل أن تكون مهنة، وكل تجربة، كل تعلم ، وكل تحدّ ترك بصمة لا تُمحى. اليوم، أغادر الصفوف جسديًا، لكن قلبي وعقلي لا يزالان في الخدمة، مستعدان لتوسيع أثر الخبرة بعيدًا عن الجدران، عبر التدريب، الكوتشينغ، ومرافقة المعلمين والطلبة على طريق التميز..

أراه فرصة لأعيد صياغة رسالتي المهنية، لأحول الخبرة إلى نور يضيء مسارات الآخرين، فأنا لم أتقاعد عن العطاء، بل دخلت مرحلة أوسع من التأثير، حيث كل ما تعلمته يمكن أن يُثمر في حياة أكبر، وأكثر عمقًا، وأكثر امتدادًا. التقاعد بالنسبة لي ليس وداعًا، بل هو مرحلة انتقالية تفتح آفاقاً جديدة. إنه لحظة للتأمل في ما أنجزته، وللاعتراف بالمسار الذي خضته بكل تحدياته وإنجازاته، لكنه في الوقت ذاته فرصة لإعادة صياغة طاقتي وخبرتي في شكل جديد حيث تتلاقى الخبرة مع الحرية لإعادة بناء الحلم المهني بشكل أوسع وأكثر عمقاً..

 هل للاستاذة عايشة مؤلفات في مجال التنمية الذاتية هل يمكن تزويد الجمهور بالعناوين مع نبذة مختصرة عن كل مؤلف؟ 

حتى الآن، لم أقم بنشر مؤلفات رسمية في الكوتشينغ المدرسي، لكنني أعمل حاليًا على مشروع مهم في هذه المرحلة الانتقالية من مساري المهني، وهو إعداد دليل شامل للطلبة. هذا الدليل سيجمع بين المهارات المنهجية، الذاتية، والحياتية، ليكون أداة عملية تساعد الطلبة على النجاح الأكاديمي وتطوير قدراتهم الشخصية، ويعكس خبرتي الطويلة في التدريس والكوتشينغ.

أرى في هذا المشروع فرصة لتقديم معرفة عملية وملهمة، بحيث يتحول كل ما تعلمته على مدار سنوات من تجربة حقيقية إلى مرجع يدعم الطلبة في حياتهم الدراسية والشخصية على حد سواء. وهناك مشاريع أخرى في هذا الإتجاه إن شاء الله .

 كيف تفسرين ارتفاع حالات العنف في فئة الشباب اليوم ؟

العنف وسط الشباب اليوم هو نتيجة تداخل عدة عوامل، وليس مجرد رد فعل لحظة غضب. نفسياً، يعيش كثير من الشباب إحباطاً عميقاً بسبب البطالة، ضغط الدراسة، والشعور بعدم التقدير، ما يؤدي إلى توتر داخلي يتحوّل بسهولة إلى عدوان. كما أن غياب مهارات إدارة الغضب والتواصل الفعّال يجعل الانفجار العاطفي أقرب من أي حلّ هادئ.

أسرياً، حين يغيب الحوار داخل البيت أو تصبح القسوة والعقاب لغة يومية، يتعلم الشاب أن العنف وسيلة للتعبير أو للدفاع عن الذات. بعض الأسر تقدّم نماذج متناقضة: حدود غامضة، تربية غير مستقرة، أو مراقبة شكلية بلا حضور عاطفي، وكلها أرض خصبة للسلوك العدواني.

مدرسياً، عندما تتحول المدرسة إلى فضاء للتنمر والضغط دون وجود دعم نفسي أو بيداغوجيات تقوم على التعاطف واحترام الاختلاف، يشعر الشباب بأنهم غير مرئيين، وأن العنف هو الطريقة الوحيدة لفرض الذات. أما في المجتمع، فتؤدي الفوارق الاقتصادية والضغط الاجتماعي إلى شعور بالظلم والهامشية.

ولا يمكن تجاهل العامل الرقمي: محتوى يمجّد القوة، تقليد سريع للمشاهد العنيفة، وتطبيع للسلوك العدواني عبر الألعاب والفيديوهات، مما يقلّل حساسية الشباب تجاه خطورة الفعل.

في نظري، الحل يبدأ بفهم هذه الجذور لا بتحميل الشاب وحده مسؤولية الانفجار، بل بتوفير بدائل صحية وببناء جسور: دعم نفسي مبكر , تربية وجدانية داخل الأسرة، تربية أسرية قائمة على الإصغاء والحدود الواضحة , تعليم مهارات الحياة والذكاء العاطفي في المدرسة، مساحات آمنة للتعبير، وسياسات مجتمعية تمنح الشباب فرصة وإحساساً بالانتماء. فالشباب لا يولدون عنيفين, هم فقط يبحثون عن صوت واعتراف ومساحة آمنة ليتنفسوا فيها..

يعاني أغلب المتعلمين بالاسلاك التعليمية من صعوبات تعلمية لأسباب شخصية كالخوف من مواجهة الأساتذة والتنمر إضافة إلى عوامل إجتماعية واقتصادية ما تقييمك لدلك؟

برأيي، عوائق التعلم التي يعيشها كثير من المتعلمين ليست ضعفاً في القدرات بقدر ما هي انعكاس لبيئة غير مهيأة لنموهم. فالكثير من التلاميذ يدخلون الفصل وهم محمّلون بخوف داخلي: خوف من الخطأ، من

السخرية، أو من نظرة الآخر، خاصة في ظل انتشار التنمر وضعف المهارات الوجدانية التي تساعدهم على حماية أنفسهم نفسياً.

من جهة أخرى، يعيش بعضهم فراغاً عاطفياً داخل الأسرة؛ غياب الحوار، ضغط التوقعات، أو عدم الاستقرار الأسري يجعل تركيز المتعلم يتشتت قبل أن يبدأ الدرس أصلًا. وعندما تفتقر المدرسة بدورها إلى بيداغوجيات مرنة تراعي الفروق الفردية، يجد المتعلم نفسه أمام منهج سريع لا ينتظر ضعفه، ولا يلتفت إلى ذكاءاته المختلفة.

ثم تأتي الظروف الاجتماعية والاقتصادية – الحرمان، ضيق العيش، غياب الدعم المنزلي – لتضاعف العبء، فيتحول التعلم من فرصة ارتقاء إلى معركة يومية يواجهها الطفل وحده.

لهذا أرى أن صعوبات التعلم ليست مشكلة التلميذ وحده، بل مسؤولية مشتركة. والحل يبدأ ببيئة تعليمية تُشعره بالأمان، وتربية أسرية حاضنة، ومدرسة تؤمن بأن كل متعلم يملك طريقته الخاصة نحو الفهم والنجاح… فقط يحتاج لمن يمد له اليد ويفتح له الباب.

تكريم أستاذة يقصد به لحظة اعتراف بخدمات جليلة ومجهودات قيمة قدمتها الأستاذة لطلبتها خلال مسارها المهني ماهي الرسالة التي تودين توجيهها لطلبتك ؟

رسالتي لطلبتي في هذه اللحظة التي تحمل الكثير من المعنى:أريد أن أقول لكم شيئاً ظلّ يرافقني طوال مساري، أنتم لستم مجرد أسماء في لائحة، ولا نقاطاً في امتحان… كنتم دائماً قصصاً حيّة تتشكّل أمامي، وكنتُ أحاول أن أكون الضوء الصغير الذي يساعدكم على رؤية الطريق حين تصبح الرؤية مشوشة.

أقول لكم:لا تخشوا الطريق، فالطريق منكم وإليكم.كلواحد منكم يحمل شرارة خاصة، موهبة ربما لا يراها الآخرون بعد، لكنها ستلمع في اللحظة التي تقررون فيها أن تمنحوها العناية والشجاعة.

تذكّروا أن قوتكم ليست فقط في ما تعرفونه، بل في كيف تنهضون بعد كل سقوط، وكيف تحولون الألم إلى معنى، والشك إلى دافع، والخوف إلى خطوة أولى.

أطلب منكم أن تظلوا طلاباً للحياة، لا للمدرسة فقط. أن تحافظوا على نقاء قلوبكم، وأن تظل أسئلتكم أكبر من أجوبتكم، لأن السؤال هو بداية كل معرفة وكل نهضة.

وإن كان لي أن أترك فيكم أثراً، فأرجو أن يكون هذا:

ثقوا بأنفسكم أكثر مما يثق بكم الآخرون، وكونوا رحماء بذواتكم، ولا تسمحوا لأي ظرف أن ينتزع منكم حلمكم.

أما أنا… فسأظل ممتنّة لكم. أنتم الذين منحتموني معنى لعملي ومعنى لرحلتي. وإن غادرت اليوم العمل بين أحضان المؤسسة التعليمية ، فلن أغادر ذكرياتكم ولا صوركم التي حملتها في قلبي طيلة سنوات أدائي لرسالة التربية والتعليم.. سأظل أصفّق لكم بكل ود وحب ، كلّما سمعت نبأ نجاحكم أو شاهدتكم تكبرون في الحياة..

          

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى