الرأيالسياسة

التحوّلات السياسية في المغرب بين أزمة التمثيل وصعود الفاعلين الجدد

  • دراسة تحليلية من إعداد: حسن كرياط//

يشهد المغرب في السنوات الأخيرة تحوّلات عميقة تمسّ طبيعة الحقل السياسي وتمثلات المشاركة المواطِنة، بما يجعل من الحالة المغربية نموذجاً حيّاً لتفاعل البُنى المؤسساتية التقليدية مع متغيرات اجتماعية وثقافية ناشئة. فعلى الرغم من استمرار الآليات الدستورية والديمقراطية ممثلةً في الانتخابات وتعدد الأحزاب وتوسّع صلاحيات المؤسسات المنتخبة، فإن قياس مؤشرات المشاركة السياسية يكشف وجود فجوة معتبرة بين الإطار القانوني والدينامية المجتمعية الفعلية.

لقد شكّلت انتخابات 8 شتنبر 2021—التي جاءت في صيغة متزامنة تشريعياً وجهوياً وجماعياً—محطة مهمة لفهم التحوّل السياسي المغربي. فقد بلغت نسبة المشاركة الوطنية 50.18%، وهي نسبة أعلى من تلك المسجلة سنة 2016، إلا أنها تظل دون مستوى الطموحات المرتبطة بمنظور ديمقراطي يهدف إلى تعبئة شاملة للمواطنين داخل العملية السياسية. وتزداد هذه الفجوة وضوحاً عند التعمق في فئة الشباب (18–30 سنة)، حيث تظهر الدراسات أنّ الإقبال على التسجيل والتصويت ضمن هذه الفئة ضعيف مقارنة بباقي الفئات العمرية، ما يعكس تراجع الشعور بالتمثيل وفقدان الثقة في جدوى الوسائط السياسية التقليدية.

ومن الإشارات الدالّة على أزمة التمثيل، النتائج الصادمة لاستطلاعات الرأي التي تبرز ضعف الثقة في الأحزاب السياسية. إذ يرى أزيد من 90% من المواطنين أنّ أداء الأحزاب ضعيف ولا يرقى إلى انتظاراتهم، بينما لا تُمنح صفة “الأداء الجيد” إلا لنسبة هامشية للغاية. هذا الوضع يُفصح عن خلل في الوظيفة الوساطية للأحزاب، والتي يُفترض وفق المنظورات الكلاسيكية لعلم السياسة—كما عبّر عنها مارسل بريلو—أن تكون همزة وصل بين المجتمع والدولة. غير أن الواقع المغربي يُظهر انحساراً في هذه الوظيفة وتآكلاً تدريجياً لثقة المواطنين في القنوات الحزبية التقليدية، ليطفو مفهوم “أزمة الوساطة الديمقراطية” كإطار تفسير مركزي.

ومع تراجع دور الأحزاب، تتجه بوصلات التعبير السياسي نحو فضاءات بديلة: مبادرات مدنية، ديناميات شبابية مستقلة، احتجاجات اجتماعية محلية، وتفاعل قوي داخل العالم الرقمي. وهنا تظهر تحوّلات سوسيولوجية مهمّة؛ إذ أفرزت التغيرات الديموغرافية—من ارتفاع نسبة الشباب وتزايد الهجرة الداخلية نحو المدن—مجتمعاً أكثر حساسية للاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، وأكثر ابتعاداً عن الوسائط الرسمية كلما غابت الاستجابة الفعلية لمطالبه. وبالتالي تتسع دائرة السياسة لتشمل فاعلين غير مؤسسيين، في خروج واضح عن التصور التقليدي الذي يحصر السياسة في أجهزة الدولة ومؤسسات التمثيل الانتخابي.

وما جاءت به انتخابات 2021 من إعادة رسم للخريطة الحزبية—من خلال صعود قوى جديدة وتراجع أحزاب كانت في الصدارة—يجسد بدوره تحوّلاً في اتجاهات التصويت. فالناخب المغربي لم يعد يصوت بالعاطفة التنظيمية أو بالتراكم التاريخي للحزب، بل بناءً على انتظارات اجتماعية مباشرة ورغبة في التغيير السريع، إضافة إلى تأثره المتنامي بالصورة الرمزية للمرشحين. كما سجلت تلك الانتخابات حضورًا نسائياً متزايداً في الترشيحات بنسبة قاربت 34%، وهو مؤشر على انتقال تدريجي نحو تمثيل أكثر تنوعاً، وإن كان لا يزال بعيداً عن تحقيق تكافؤ فعلي داخل مواقع صناعة القرار.

إنّ مجموع هذه المؤشرات يبيّن أنّ المغرب يمر بمرحلة مفصلية، ترسم فيها التحولات الاجتماعية والثقافية ملامح مجتمع سياسي جديد، يتجاوز ما اعتاده الباحثون الكلاسيكيون من حدود منهجية في تعريف السياسة. فالبُنى المؤسساتية قائمة، والقوانين الانتخابية متطورة، لكن إرادة المشاركة الشعبية—وخاصة لدى الشباب—تظل محدودة، ما يشير إلى أزمة تمثيلية عميقة لا تعالجها مجرد دورات انتخابية أو تعديلات تقنية، بل تتطلب إعادة نظر في دور الفاعلين، طرق الوساطة، وأنماط التدبير.

وعليه، يظهر أن دراسة السياسة في المغرب تفرض اعتماد منهجٍ متعدّد التخصصات، يجمع بين علم السياسة والسوسيولوجيا والاقتصاد والاتصال، لاستيعاب التحوّلات الجارية داخل المجتمع. كما تصبح الفئة الشبابية محوراً رئيسياً لأي تحليل مستقبلي، نظراً لكونها تمثّل القوة الديموغرافية الأبرز وصاحبة المطالب الاجتماعية الأكثر إلحاحاً. وفي السياق ذاته، ينبغي توسيع النظر إلى الديمقراطية لتشمل المشاركة المدنية والرقمية والنضال الاجتماعي، باعتبارها أشكالاً جديدة من الحضور في الشأن العام.

صفوة القول، يشكل المغرب مختبراً سياسياً غنياً يُظهر بما لا يدع مجالاً للشك أنّ التحليل العلمي للسياسة لا يمكن أن يظل أسيراً لقوالب جامدة. فالحقل السياسي المغربي اليوم يتحرك داخل مفارقة: مؤسسات قائمة وقوانين متقدّمة من جهة، وعزوف اجتماعي وضعف ثقة من جهة ثانية. وبين هاتين الحقيقتين تتشكل ملامح مجتمع يبحث عن وساطات جديدة وتعاقد سياسي أكثر توازناً، بما يجعل من التحولات الراهنة مدخلاً رئيسياً لإعادة التفكير في مفاهيم التمثيل والمواطَنة والشرعية داخل السياق المغربي المعاصر.

          

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى