
بخصوص الصمت..
- بقلم عبدالرحمان بلعياشي//
الصمت حضور وإعلان. الصمت امتلاء وتعبير ومكاشفة. الصمت موقف. الصمت شجاعة. الصمت رمز ولغة. الصمت شيفرة. الصمت كلام، لكن بدون كلمات. الصمت في الغالب أفضل من الكلمات، لأن الكلمات قد تخون ويخوننا التعبير، فلا نبلغ المراد والمقصود، ونصاب بعده بالحرج أو بخيبة أمل. الصمت يعفي عن الرد، حيث لا معنى له أو لا جدوى منه ولا فائدة.
قديما قيل إن السكوت علامة الرضا. مقولة صحيحة إلى حد ما، لكن عكسها أيضا صحيح، تبعا للسياقات والأحوال والظروف. الصمت إذن حاجة في الاتجاهين. الامتناع طوعا أو حتى كرها عن الكلام. الصمت حاجة وممارسته جرأة، تتطلب شجاعة لا تأتي إلا من فرد ذو شخصية قوية. الصمت إعلان عن نية وقصد. الصمت سلم وسلام. الصمت احترام. الصمت يضعك في مسافة مع الآخر، ويرسم حدود الوقار. الصمت يعفيك من الإصطدام ويجنبك المواجهة وعواقبها. الصمت وقاية وحماية، وتوفير للجهد والمجهود والطاقة.
الصمت اختيار واختبار. الصمت حكمة وأدب. الصمت سلطة. الصمت سلاح، قد يصبح فتاكا. الصمت الذي يقول كل شيء، الصمت الذي يتجاوز الكلمات ولا يقبل الكلام لأن وقعه أكبر، فيرعب النفوس ويدعوها إلى التفكير والتدبر والتصرف. الصمت الرافض والمعارض، والصمت الثائر والغاضب. الصمت الرهيب والمرعب. الصمت اللغز، الصمت المحير والمربك. الصمت الذي يبعثر كل الاوراق، بل ويخلطها ليعيد ترتيبها وتوزيعها. الصمت المهدد والمصحح والمصلح، الصمت العنيف، المتأكد من نفسه والواثق من خطاه، وربما من مفعوله. هو ذلك الصمت المهيب الذي يقرأ من الملامح ويستشف من تقاسيم الوجه. صمت الإنكسار والتحسر والخيبة. الصمت الذي يبصم على وجوده ويترك الأثر في النفوس.
الصمت حاجة نفسية وغاية ذاتية. يوفر المسافة بين الذات والموضوع ويتيح الإنزواء إلى النفس والإختلاء بالذات والإستفراد بها. الصمت يعيدك الى نفسك دون وساطة أو عراقيل. الصمت يقرع أبواب الأصوات الخفية والمخفية. يهيئ الأجواء لإعلان هدنة مع الذات، فتشرع أبواب الإنصات وتفتح قنوات الحوار وسبل التحليل والتأويل واستيعاب المواقف والآراء. عند الخلوة بالذات، يحلو الجو للتفهم والتفاهم. النفس في حاجة الى هذه الفسحة، فسحة صمت وهدوء وسكينة، تبعث فيها الطمأنينة. فسحة مكاشفة، مساحة تجمع الفرد بذاته . يصبح الصمت فيها الفيصل. يصبح وجوده ضروريا لتنجلي الأشياء. الصمت هنا يتيح استقلالية أكبر، لتوضيح موضوعي أكثر للأمور. فيكون الطرفان مرتاحي البال ومقتنعين بالقرار وبالمصير؛ راضون ومطمئنون لمآل الاشياء ومجريات الامور. فتتولد السكينة والطمأنينة ويزول الهم والغم، وسط صمت ذائع الصيت والصوت. فسحة تمثل الخلاص وتكسر القيود. فسحة تتحرر فيها النفوس والذوات. فسحة صمت تسمو بالروح إلى أعلى الدرجات، لتترك وراءها الأشياء الدنيئة والحقيرة، تتخلى عن التشبث بالجزئيات والإلتفاف حول تفاصيل، تؤخر أكثر مما تقدم. هذا السمو الذي يحدث تغييرا جذريا أو نسبياً، يحدث ثورة هادئة من الداخل، تكون هي المدخل إلى مرحلة جديدة، تحدث بدورها قطيعة أو تشكل منعطفا في الحياة والمسير والمصير. سمو يمنح تأويلا جديدا للحياة والوجود، بل معنى جديدا تتأسس عليه المواقف المقبلة.
هو نفسه الصمت الذي يدخلك إلى ذاتك ويوصلك بمكنوناتها ويطلعك على خباياها. فتكتشف ما يسعدها وما يحزنها، ما يشغلها ويؤرقها، ما يبعث فيها الروح والأمل. صمت يصالحك معها، بعيدا عن الضجيج والضوضاء. بعيدا عن كل إزعاج أو إحراج من أي كان. أنت وذاتك، وجها لوجه. فتراك كما أنت، وتراها أنت كما هي. دون وسيط أو وساطة، بكل تلقائية وعفوية. تتعرف إليها، وتكتشف قدراتها، وأيضا حدودها ومحدوديتها. تقف عند أحاسيسها ورقتها وليونها، كما تقف عند قسوتها وقساوتها وجفائها وغلظتها. تقف عند شخصيتها وما يبنيها ويميزها. تقف عند نقاط ضعفها ونقاط قوتها، ما يقوي عضدها ويكسر شوكتها. ما يعطيها الثقة والقوة والطاقة، وما يهزمها ويحبطها ويقتل فيها كل بصيص أمل.
الصمت … نفق طويل، بلا نهاية وبلا أفق، ظلام غير كاشف، ستر وتستر. أناس وصلوا في صمت ورحلوا في صمت. أناس بصموا على مسارهم بصمتهم، صمت رهيب ومخيف. صمت منحهم مهابة وحضورا. نفتقدهم اليوم في صمت. أناس لم نكن نحسب لوجودهم كثيرا، لأنهم كانوا يعيشون معنا ونتحرك كلنا في نفس الفضاء والفلك، لم نقدر في وقته قيمة وجودهم بالنسبة لحياتنا. وكأنهم يؤثثون فقط الفضاء. إلى أن رحلوا عنا بغتة وغادرونا للأبد، عندها فقط أدركنا قيمتهم الحقيقية، إذ تركوا فراغا لا يمكن لغيرهم أن يملأه، أو بأي شيء آخر. ينشغل الإنسان بقصد أو بغير قصد بأمور شتى، يعتبرها أساسية ويترك جانبا أمورا أخرى، يعتبرها ثانوية، وفي لحظة ما يستشعر جسامة الخطأ وهول سوء التقدير، فيندم ويتحسر، لكن بعد فوات الأوان. أناس كانوا يعيشون معنا وبيننا، لكن الحياة أو الظروف وضعتهم على الهامش، بينما كان وجودهم في الحقيقة يشكل مركز حياتنا، هم الآباء والأزواج والأولاد والإخوة والأخوات والأصدقاء والجيران… الصمت الذي ينقد من العزلة ومن القلق والكآبة. الصمت الذي يشعرك بالذنب وتحاول محوه بالندم. الصمت الذي يعيد الإنسانية والأحاسيس، ويبعد اللامبالاة وعدم الإكتراث بأي شيء. الصمت الذي يعيد تقدير من مروا في الظل ولم يحدثوا ضجيجا، وضعناهم أو وضعهم قدرهم في الظل، وحسبنا أنفسنا في دائرة الضوء، كان حضورهم نعمة في حياتنا لم ننتبه إليها في حينها حتى ضاعت واختفت واندثرت. وتلك خسارة كبرى.
الصمت جريمة عندما يسبب في الأذى ويكون مصدر ضرر للذات وللغير. يصبح جريمة عندما يسكت عن الظلم والجور. يصبح متواطئا مع الجبن والإستسلام. ويكون علامة على الرضا والقبول بالوضع القائم. الصمت يصبح أذاة لتكريس الخوف والرضوخ والخضوع والخنوع. يصبح خيانة عندما يسكت عن فضح الآفات والسلوكيات الشنيعة المتفشية في المجتمع، من فساد ورشوة وغش ومحسوبية وزبونية ونهب وجشع. الصمت يتحول إلى مؤامرة ضد القيم التي يقوم عليها مجتمع سوي ومستقيم ومتوازن، الصمت يضرب في الصميم التعاقد الإجتماعي ويزعزع أعمدة السلم المتعارف عليها، والتي تضمن كرامة الجميع، وعدالة اجتماعية ومساواة بين مختلف مكونات المجتمع.
والصمت بكاء على غدر يصدر من الاقرباء أو ممن نظنهم أقرب الناس إلينا، ممن لا نستطيع أن نرفع أصواتنا أمامهم وفي حضورهم. والصمت لا مبالاة جافة، فيها من الكبرياء والتعالي ما يجرح النفوس والأرواح. والصمت ابتسامة ترسم على شفاه الرضى أو الحشمة. والصمت تستر عن هفوات الحياة اليومية، صمت راق لا يهين الكرامة ولا ينم عن احتقار. والصمت عتاب عن موقف محرج أو تصرف غير محسوب، صدر من أناس نعرفهم بقلوبهم البيضاء، فنسامحهم بصمت لين ورحيم. الصمت الصديق والأنيس والمحتضن والدافىء، عندما تهجرك الكلمات ويتخذ التعبير مسافة تجاهك، ربما ليحميك من كلام، صوته قد يؤذي القريب والبعيد على حد سواء. أما صمت الليل، فلا صمت آخر يضاهيه في جماله ورقته وحميميته وخلوته وهدوءه. صمت ساطع في حلكة الليل، الصمت الرفيق والصاحب الذي يواسي القلوب ويخفف عن النفوس. الصوت تلميح وبوح، صوت الأحاسيس النبيلة والراقية الذي يصل القلوب ببعضها، ويغذي الروح والجسد معا، ويمنح نكهة فريدة ومختلفة للحياة، إذ يدخلها في عوالم تحفر آثارها في الذاكرة وفي الخلوذ. لا شيء يعلو هنا فوق صوت الصمت. الصمت الذي يتسلل إلى الذوات بحثا عن أصواتها.
والصمت فضيلة، إذ يصبح ضروريا حيث لا ينفع الكلام ولا يجدي. حيث لا توجد آذان صاغية ولا عقول مدبرة. الصمت سمو ورقي. الصمت يكفيك عن اللغو الزائد. يوفر عليك المجهود ويجنبك الأعصاب. ضع كلامك في المكان الذي يناسبه. وضع الصمت حيث يكون له وقع أقوى من الكلام. الصمت تعبير فتاك. الصمت محرج لأنه غير متوقع، ولا يطالب بالجواب ولا ينتظر الرد. يعاتب ويوبخ، وينتظر اتخاذ قرار أو موقف أو سلوك. هذا الصمت الذي يربك الحسابات ويبعثر التوقعات ويخالف المنطق. صمت يزلزل ويحدث ضجيجا. الصمت والصوت يصبحان هنا وجهين لعملة واحدة. صوتها في صمتها، وصمتها في صوتها.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News



