الثقافةالرأي

بخصوص الأصوات..

  • يكتبه عبدالرحمان بلعياشي //

هل لنا أن نتخيل العالم بدون أصوات، بدون ضجيج، بدون حركات تحدث أصداء؟ مستحيل. بل لا نريد ذلك ولا نتمناه. لا نريد عالما ساكنا وصامتا، عالما أخرص وبدون أصوات.

الصوت هو من يعطي المعنى للوجود، هو إعلان عن حضور ووجود. أول ما نستفيق عليه كل صباح هي الأصوات المتنوعة والمتجددة التي تغمر آذاننا وتبسط نفوذها على الفضاء الذي نتحرك ونتنفس فيه. بل هي من توقظنا، وعلى إيقاعاتها  نبدأ يومنا. غياب الصوت هو غياب الحياة في حد ذاتها. الصمت رهيب ومخيف.

لغز محير. نحن بنو البشر نبحث عن الاصوات، لأن بها نتحسس للأشياء وجودا وحضورا. الصوت يشكل للوجود نوعا من الإمتلاء، ينقذه من الخوف والتوجس والوحدة والفراغ. كل صباح إذن نترقب ونبحث عن هذه الأصوات التي لا نعرفها ولا تعنينا بالضرورة مباشرة، لكنها ترمز إلى حلول يوم جديد، وتعلن عن بدءه وانطلاقه، وقد تكون أصواتا كثيرة ومختلطة ومتزامنة ومتنوعة، أو حتى متنافرة  أومزعجة أو مشاكسة. لكننا نطيقها ونتحملها لأهميتها بالنسبة لحياتنا، لضرورتها بالنسبة لوجودنا. أصوات تعلن عن حركية وحيوية ودينامية.

أصوات تحمل معها التفاؤل والإقبال عن الحياة. السكون والصمت قد يدخلانا في نوم عميق وعندما نستفيق منه، يكون الوقت متأخرا وقطار الحياة قد مضى بعيدا وبدوننا، وقد تكون فاتتنا أشياء كثيرة، ربما مهمة أو حاسمة ومصيرية. الصوت هنا، نقيض الإستكانة والركوض…

ولا وجود لصوت واحد. الصوت أصوات. مفرد يراد به جمع. الصوت لفظة تحتمل قراءات متعددة وتأويلات شتى. ويمكن أن تستعمل للدلالة على معاني سياقية مختلفة، ما يجعل منها مفهوما غنيا ومفتوحا ومنفتحا. الصوت ملكة وقدرة، أو لنقول، الصوت قدرات. الصوت مرتبط بالنطق والسمع. المنطلق والوصول.

وبينهما يحدث التلقي والتأويل والإستيعاب. هناك أصوات لا نبحث لها عن أصل ومنبع، لأنها تصلنا بجمالها. وهناك اصوات لابد وأن نعرف منطلقها ومصدرها، لأنه، أي المصدر، مهم، ويحسم في قبولها أو رفضها، في استحسانها أو استهجانها، أو ربما لأنها غير جميلة ولا تطاق، لكن محدثها هو الأهم، وما تحمله من رسائل ومعاني هو الأهم. الصوت شكل ومضمون، الصوت مبنى ومعنى، الصوت دال ومدلول.

الصوت والصداع والضجيج والصخب، عناوين كبيرة لحضور مؤكد، لوجود وتواجد في  الزمان والمكان. الصوت مادي وملموس ومحسوس. الصمت إدراك وتواجد. الأشياء التي لا تحدث أثرا ولا تخلف صدى ولا تترك بصمة أو لا تشعل جدالا ولا تثير نقاشا ولا تولد تفكيرا أو تأملا  لتعلن عن حضورها، هي أشياء تزول بسرعة ويكون حدوثها ظرفيا ووقوعها بدون أثر يذكر. الحياة نفسها تحتاج إلى الأصوات، هي من تحددها. الصوت إعلان وإخبار وإشعار وتنبيه وتذكير.

الصوت امتلاء وامتلاك. لهذا فغياب الاصوات يربكنا وقد يغضبنا ويغمرنا شعور بالضياع والتيه والتشرد، فنبحث عنها في كل الاتجاهات، لأنها هي من توجهنا وترشدنا وتنبهنا. هي البوصلة التي تعيدنا إلى مشهد الحياة. تعيدنا إلى سكة الحياة وتعطينا الأمل والطاقة لركوبها. وهناك اصوات خاصة ومحددة تدخل إلى نفوسنا البهجة والسرور عند سماعها، وننتظرها دائما، ربما في نفس الوقت الذي تحدث فيه أو في أي وقت كان. أصوات نرتاح إليها كثيرا ونبحث عنها وقد نفتعلها أو نفتعل أسباب صدورها.

أصوات متنوعة ومتعددة، قد تكون صوت أمواج البحر أو صوت الرياح أو الرعد والمطر أو  الحيوانات أو صوت الوالدين  والأبناء  والحبيب أو رنات الهاتف أو جرس البيت أو صوت بائع متجول نعتاد على مروره بين دروبنا أو صراخ الأطفال في الشوارع والأزقة أو صافرات السيارات والمركبات التي تملأ الشوارع والأزقة والطرقات أو صفير سيارات الإسعاف أو الشرطة ورجال المطافئ أو أصوات الفنانين من ممثلين أو مطربين أو صوت الشاي  عند إفراغه في الكؤوس أو خرير المياه، وغيرها من الأصوات.

وتبقى أصوات الطبيعة من بين أجمل الأصوات. هي شخصيتها، هي هيبتها، هي عظمتها. لا تنقطع ولا تنضب ولا تمل ولا تنتهي أبدا. بها تشعرنا الطبيعة عن حضورها، أو بالأحرى، بها تربط الإتصال بالكائنات التي تعمرها وتسكنها. الطبيعة هي الأصوات. كل مكون ينفرد ويتفرد بصوت معين ومحدد. كل صوت يعادل هوية.

يحدد هوية صاحبها ومنطلقها، بل وما ينتج عنها من ردود أفعال. الطبيعة تتحدث إلينا، تهمس بأصواتها في آذاننا، تتواصل معنا، أحيانا لتنذرنا وتحدرنا، أحيانا أخرى لتزف إلينا بشائرها، وأحيانا أخرى لتبقى  فقط على تواصل دائم معنا. كل صوت لديه مهمة يقوم بها ورسالة يؤيدها. الطبيعة تتنفس من خلال هذه الأصوات. وكأنها تريد أن تشعرنا بأنها ضرورية لحياتنا، وهي بالفعل كذلك. لا يمكننا أن نستغني عنها، أو أن نتخيل لحياتنا طعما أو معنى بدونها.

غير أن لأصواتنا، بني البشر، معنى خاصا ودلالة متفردة. لكل واحد منا صوته الخاص به، نعرفه به ويتميز به عن غيره. أصوات كثيرة ومتنوعة ومتعددة تعدد البشر نفسه، بعدده وتعداده ونوعه. كل إنسان يشكل صوتا جديرا بالإستماع والإنصات. كل صوت يطالب بحقه في الاصغاء. والصوت سلطة وقوة وجبروت.

صوت الأب في البيت لا يعلى عليه. فهو مسموع بقوة رمزيته ورمزية صاحبه. صوت رجل السلطة أو شيخ القبيلة أو المعلم أو الطالب/الفقيه في الكتاب أو في المسجد. لكل سلطته، يمارسها في مجال اختصاصه أو في مجال نفوذه، ولا يمكن أن يعصى له أمر في ذلك.

وفي المجال السياسي، يحسب للصوت ألف حساب، ويصبح مطلوبا بكل الوسائل، وتسخر كل الإمكانيات لاستمالته والظفر به. الصوت اثناء فترة الانتخابات يصبح عملة نادرة ذات قيمة عالية، تصبح كل الأصوات مهمة وسواسية على حد سواء، أصوات الفقراء كما أصوات الأغنياء، أصوات الإناث كما أصوات الذكور، أصوات العاملين كما أصوات العاطلين.

أصوات يحظى أصحابها باحترام خاص وظرفي، أصوات تفرض الإنصات ولو مرة واحدة إلى  الناس، والإستماع لهمومها، وما يؤرقها، يتم من خلالها تحديد قائمة طويلة من احتياجات الناس وانتظاراهم، خاصة كانت أو عامة. أصوات تعطي الأمل في غذ افضل، من خلال وعود تبدو للجميع في تلك اللحظة أنها قابلة للتحقق.

إذ كلها تحسم في الوصول إلى المبتغى، إلى القبة وإلى مركز صناعة القرار. وبداخلها تنمو وتكبر أصوات جديدة تحمل انشغالات أخرى. أصوات نابعة من الصراخ والجدال والسجال والنقاش بدافع شخصي أو حزبي أو ووطني. أصوات للإعلان عن حضور، ينم عن قوة ونفوذ وسلطة. أصوات تبحث لها عن مشروعية ملأ الكراسي. أصوات من داخل القبة تنوب عن أصوات من خارجها، صوت الشعب.

أصوات تحمل إلى داخل القبة آمال وأحلام وتطلعات شعب بأكمله، أصوات من الخارج أوصلت أشخاصا بعينها إلى القبة وحملتها مسؤولية إسماع صوتها وتحقيق آمالها وطموحاتها وما يشغل بالها في المعيش اليومي، من شغل وتعليم وصحة وعدالة اجتماعية وقضاء نزيه وجودة في جميع الخدمات.  أصوات أحيانا مسموعة وأحيانا أخرى لا، حسب التموقع في الخارطة والخريطة السياسية. أصوات أحيانا مؤثرة وأحيانا أخرى لا، حسب السياقات والمصالح.

أصوات عالية بضجيجها من الداخل، تبحث لها عن أصوات مستقبلية من خارج القبة تبقيها في الداخل، أصوات يتابعها من في الخارج عبر الشاشة، في نوع من الفرجة بصيغة الشعبوية المفضوحة. أصوات عليها أن تصمد لمدة خمس سنوات لتعطي إشارات من هنا ومن هناك عن فائدتها، من خلال النتائج والحصيلة. المانحون لها يأملون وينتظرون ويترقبون، والمستفيدون يبحثون عن سبل تحقيق الحد الأدنى، وتعليل ما لم ينجز بالاكراهات التي يواجهونها من كل الأطياف والأطراف. يعللون القصور لعلهم يظفرون بالأصوات نفسها، للبقاء على نفس الوضع والتمتع بنفس المزايا والامتيازات.

غير أن صوت الشعب في الوقت الراهن وجد ضالته في مختلف المنابر التي توفرها وبالمجان وسائل التواصل الاجتماعي بكل تلويناتها وتعدديتها.  وأصبح لكل مواطن صوت، بل أصوات إذا اعتبرنا تنوع هذه الوسائط وعدد الحسابات والبروفايلات التي يمكن أن يفتحها أو يمتلكها باسمه الحقيقي أو بأسماء مستعارة. هذه الأشكال التواصلية الجديدة والمستحدثة، بقدر ما تعطي هامشا فسيحا من الحرية للتعبير، بقدر ما تخلق هامشا واسعا من الفوضى.

هي أصوات مطلوقة على منصات عائمة في العالم الإفتراضي،  دون رقابة صارمة في الكثير من الأحيان، تسبب في انزلاقات أخلاقية في الكثير من الأحيان أيضا. أصوات متفاوتة في الوعي والتفكير والنظرة. أصوات-كتلة تائهة على العموم، فتجد نفسها تابعة وغير متبوعة. أصوات تؤسس للميوعة ولثقافة الابتذال والتفاهة، التي أصبحت مع مرور الوقت هي السائدة والمهيمنة، سيما وأنها تذر على أصحابها إيرادات مهمة.

كما أن مستوى المتلقي المتدني ساهم في نشرها بالإدمان عليها ومتابعتها ومواكبتها وتشجيعها، لأنه يجد ذاته وضالته فيها وسط الفراغات التي يعاني منها. أصوات ضائعة تستعمل في غير محلها، وتستثمر في غير ما خلقت له. علينا أن نقارن عدد المشاهدات التي تحظى بها الأصوات الجادة وهذه الأصوات التي لا تنتج سوى المزيد من الأمية والجهل والتدني والتردي والاضمحلال الأخلاقي.

أصوات لا طائل وراءها لكنها متمادية ومصرة على البقاء والمواصلة، لأن قانونها هو السائد وسلطتها هي المهيمنة ومنطقها هو المفروض. كما أن الشركات التي تتحكم في هذه المنصات تطالب بالمزيد من هذه الأصوات لما لها من دور بالغ في تجييش الأصوات-الكتل وتعبئتها، لأنها مستهلكة ومطلوبة. فبرزت ونمت وجوه جديدة ولمع نجمها، وأصبحت أبطالا في العالم الافتراضي، يروجون لمحتويات فارغة، لكنها تجلب إليها آلاف المشاهدات ومتابعين من جميع بقاع العالم، وأصبحت هذه الأصوات قدوة ونموذج نجاح سهل، لا يتطلب سوى القليل من الوقاحة والإختباء وراء شاشة حاسوب عادي أو هاتف نقال وربط بشبكة الإنترنت.

أصوات تختص في الابتزاز والمتاجرة في أعراض الناس وفضح أسرار حياتهم الخاصة ولو بالافتراء. أصوات أخرى تختص في نشر غسيلها وعرض شرفها للعموم من خلال برامج الروتيني اليومي، في نوع من محاكاة مشوهة ومنحرفة لما يسمى في الغرب بتلفزيون الواقع. وهناك في المقابل أصوات جادة وهادفة لكنها تشكل مع الأسف أقلية، وبالتالي لا يصل صوتها إلى الأغلبية الساحقة، علما أنها تنخرط وتتبنى قضايا المجتمع الكبرى، لكنها تتعرض في المقابل للتهميش، وأحيانا للمضايقات لأن البعض يرى فيها إزعاجا وتطاولا، خصوصا عندما تتطرق وبجرأة صريحة لقضايا تمس أو تهدد مصالح الغير أو تعري على الهشاشة والتهميش وتفضح الفساد وسوء التدبير الذي ينخر أجسام قطاعات بعينها.

لكن هناك صوت آخر ينتظرنا وله حق كبير علينا، صوت لا يسمع إلا في السكون والهدوء. صوت يجد له مكانا عندما تطفأ كل الأصوات ويعم الصمت وتسود السكينة. هو صوت الذات والروح والعظام، أي الجسد. صوت يظهر في خلوتنا فيملأها. نحتاج إلى هذه الخلوة والعزلة لننصت إلى ذواتنا.

إنصات لا يتحقق إلا في انزواء وابتعاد عن الإنسان نفسه في الزمان والمكان. هو انفصال من أجل اتصال. انفصال مادي لتحقيق اتصال روحي، في سكون وهدوء ووحدة وانطواء. هي قطيعة مع الآخر والمحيط من أجل التقاء بذواتنا. ننصت إليها ونستمع إليها ونلتقط همساتها، ونتحسس آهاتها، ونستشعر جراحها وآلامها وما ينهكها ويزعج راحتها. نستمع إلى الأصوات التي بها تخبرنا بحالها وحالاتها وأحوالها.

نختلي بأنفسنا لنعود إليها بطريقة أخرى، أكثر شخصية وأكثر حميمية، بعيدا عن الأصوات المألوفة أو الإعتيادية، التي ستحول دون التقاط إشاراتها كاملة. شيفرات تنبعث على شكل أصوات تتطلب منا فكها، لنستوعب مغزاها وفحواها، لنتفاهم معها ونتصالح، ونتأكد من أشياء ونفند أخرى، ونصلح ونرمم، ونواصل أو نعلن عن قطيعة، الخ. إنه حقها ومطلبها، أن ننصت إليها، إلى أصواتها المتعددة والمتنوعة، التي لا تتأتى إلا في الخلوة معها. ثم يأتي الخلاص. الشعور بالراحة والطمأنينة والسكينة والهدوء.

العودة إلى الذات بهذه الصيغة، مفتاح يصلح لقراءة هادئة ومتأنية للمواقف والآراء والأحداث والأخبار والتحركات والتغييرات التي تقع في محيطنا الضيق والواسع، فنتفاعل معها بكثير من الإيجابية والتفهم. ونقدر البعض منها، ونبحث عن مبرر للبعض الآخر، ونلتمس لها أعذارا ونحاول جعلها منطلقا لأشياء إيجابية. الإنصات للذات يتيح لامحالة مراجعة أمور كثيرة في حياتنا وفي علاقاتنا مع الغير والمحيط.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى