
من يتحكم في السوق الرمزية للإعلام بالمغرب؟ قراءة في إقصاء الإنتاج الأمازيغي حول الصحراء من الجائزة الكبرى للصحافة
- ع. البستاني //
لم يكن حفل الجائزة الكبرى للصحافة، في دورتها الثالثة والعشرين (2025)، مجرّد مناسبة احتفالية لتكريم أفضل الإنتاجات المهنية، بل شكّل مناسبة لكشف اختلالٍ عميق في خريطة السلطة الرمزية التي ما تزال تتحكم في توزيع الأدوار بين لغات الإعلام المغربي.
فالنتيجة كانت صادمة: جميع التخصصات الإعلامية — التلفزيون، الوكالة، الإنتاج الحساني، الصحافة الإلكترونية، الإذاعة — تُوِّجت أعمالُها المرتبطة بقضية الصحراء المغربية… باستثناء الإنتاج الأمازيغي.
العمل التلفزي الأمازيغي الوحيد الذي تناول القضية الوطنية الأولى للمغاربة لم يجد له مكاناً في منصة التتويج، بينما صعدت إليها أعمالٌ أخرى لا تمت بصلة إلى الرهانات المصيرية التي تعيشها البلاد، ولا تعبّر عن أولويات الدولة ولا انتظارات الجمهور.
هل هو مجرد صدفة؟ أم رسالة لغوية مبطّنة؟
في الوقت الذي دعا فيه السيد وزيرالاتصال أسرة الإعلام المغربي إلى مضاعفة الجهود في الدفاع عن القضايا الاستراتيجية للمغرب في المحافل الدولية، وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية، بدا أن هناك جهة ما — لجنة أو تيار داخل اللجنة — اختارت أن تسبح عكس هذا التوجه، وأن ترسل رسالة غير بريئة مفادها:
“اللغات العالِمة” هي وحدها المختصة بالقضايا الكبرى، أما الأمازيغية فمكانها الطبيعي هو القضايا الصغرى والهامشية.”
هذه القراءة ليست مجانية، بل تُستنتج من خلال النمط المتكرر:
كلما تعلق الأمر بقضية استراتيجية — الوحدة الترابية، الدبلوماسية الناعمة، السيادة، الأمن، يبرز من لديه رغبة في جعل العربية والفرنسية تتصدران المشهد.
أما الأمازيغية، فيُدفع بها نحو ملفات فلكلورية محلية:
بوزروك، أو المحار، تاضا كعرف اجتماعي للرضاعة الجماعية… وكأنها غير مؤهلة معرفياً ولا خطابياً لتغطية القضايا الوطنية الحقيقية.
وهذا ما يسميه عالم الاجتماع بيار بورديو بـ”السوق اللغوية” أو “السوق الرمزية”، حيث تتحكم بنى وعقليا متكلسة ومتحجرة في:
• أي لغة تُعتبر “صالحة” للحديث عن الوطن،
• وأي لغة تبقى محصورة في الذاكرة الشعبية والتقاليد،
• وأي لغة يُسمح لها بالتعبير عن الدولة،
• وأي لغة يُدفع بها إلى الحقول الهامشية.
وإذا نظرنا إلى واقعة الجائزة، سنجد أن الأمازيغية حُوصرت في خانتها التقليدية المفروضة عليها: لغة للتراث، للأغنية، للذاكرة، لكن ليست لغة للدبلوماسية، ولا للتحليل الجيوسياسي، ولا للقضايا الاستراتيجية.
هل نحن أمام إعادة إنتاج لتراتبية لغوية قديمة؟
يبدو أن ما حدث ليس مجرد تقييم تقني لعمل إعلامي، بل امتدادٌ لبنية أعمق:
1. تكريس التراتبية:
العربية والفرنسية لغات “عالِمة”،
والأمازيغية لغة “ثقافية” أو “فولكلورية”.
2. إضعاف الشرعية الرمزية للأمازيغية كفاعل إعلامي قادر على تناول ملفات الدولة الحيوية.
3. تقزيم موقع الأمازيغية في العقل الاعلامي المغربي، رغم أنها لغة رسمية للدولة وفق دستور 2011.
4. خلق انطباع عام لدى الصحفيين والمشاهدين أن الاشتغال بالأمازيغية على قضايا وطنية كبرى لا يُثمر تقديراً ولا اعترافاً مؤسساتياً.
مفارقة: اللغة التي يحملها المواطنون إلى الجبهات… لا تُسمع في جوائز بلدهم
الأمازيغية ليست لغة “ثانوية” في الوعي الوطني.
هي اللغة التي حملها الجنود المغاربة إلى الجبهات وفي كل الحروب ، في الصحراء، وفي معارك السيادة والدفاع عن حوزة الوطن وحمايتة رموزه ومقدساته بدون استثناء.
هي اللغة التي يتكلم بها آلاف المسؤولين والمنتخبين والباحثين الذين يصوغون يومياً رؤى استراتيجية للدولة.
فكيف تصبح فجأة لغة “غير مؤهلة” للتتويج بعمل حول الوحدة الترابية للمملكة؟
هذه ليست فقط مفارقة، بل هي اختلال بنيوي في التمثلات.
ما الرسالة التي يمكن أن يلتقطها الجمهور؟
حين يرى المشاهد أن جميع الإنتاجات حول الصحراء تُتوَّج…
إلا العمل الأمازيغي، تُطرح الأسئلة التالية تلقائياً:
• هل دور الأمازيغية فعلاً مجرد تناول التراث والطقوس؟
• هل القضايا الوطنية الكبرى محجوزة للغات أخرى؟
• هل الأمازيغية لغة رسمية أم رسمية “بالتقسيط”؟
• هل هناك إرادة لخلق هوة بين الأمازيغية والمجالات الاستراتيجية للدولة؟
هذه الأسئلة ليست تقنية ولا بسيطة، بل سياسية ورمزية بامتياز.
ماذا يعني هذا للمستقبل؟
إقصاء عمل أمازيغي حول الصحراء من جائزة وطنية كبرى ليس حدثاً عابراً، بل مؤشر على:
• صراع داخل داخل اللجن وفي بعض المؤسسات حول تموقع الأمازيغية؛
• مقاومة غير معلنة لتحولها إلى لغة دولة وليس فقط لغة ثقافة؛
• خوف بعض الفاعلين من أن يُصبح لها حضور متزايد في الملفات الحساسة والاستراتيجية.
وهو ما يتناقض مع:
• الدستور،
• خطاب الدولة الرسمي،
• توجهات الإعلام العمومي،
• وتوصيات السيد الوزير نفسه.
خلاصة
إن ما حدث في الجائزة الكبرى للصحافة سنة 2025 يعبّر عن لحظة اختبار:
هل نريد فعلاً إعلاماً وطنياً متعدد اللغات يواكب قضايا البلاد الكبرى؟
أم نريد الحفاظ على تقسيم لغوي غير عادل، يجعل من بعض اللغات “سيدة القضايا الكبرى”، ومن الأمازيغية “خادمة الفنون الشعبية” فقط؟
إنّ إقصاء الإنتاج الأمازيغي حول الصحراء من التتويج هو رسالة رمزية خطيرة، لأنها تعيد هندسة المشروعية اللغوية داخل لجن جوائز الإعلام الوطني، وتفرغ الاعتراف الدستوري بالأمازيغية من مضمونه العملي.
ولذلك فإن النقاش لم يعد يتعلق ببرنامج واحد، بل بـــ:
من يحدد ما الذي يحق للأمازيغية أن تقوله؟
ومن يقرر حدود حضورها في قضايا الوطن؟
ومن يربح ومن يخسر في السوق الرمزية للغات داخل الإعلام المغربي؟
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News



