المجتمع

تلقائية الأطفال ورهان التربية

إن ما يلفتُ نظرنا ويدهشنا، يضعنا أمام لوحة فنية إلهية بديعة، وباعثة على الإنجذاب الداخلي والإعجاب الشديد، المرافق لعدة تساؤلات تروم لكشف هذا السر الكامن وراء هذه الصورة البهية التي يرسمها ويشكلها الأطفال الصغار، ويشاركون في إبداعها  أمام مرآى الكبار وكل أطياف المجتمع، وذلك بلياقاتهم الفطرية في التلقائية والعفوية التي يتمتعون بها، النابعة من وجودهم الحقيقي كأطفال،  يسلكون طريق النمو والإزهار كما تفعل البذرة وهي تنفتح في تربتها بكل الشروط اللازمة،  يتفاعلون وينفعلون مع مختلف مواقف الحياة وتجاربها بطبيعتهم المتأصلة في الفطرة الإنسانية، بدون تكلف أو تصنع أو لعب أدوار أخرى تم الاتفاق عليها لأغراض شخصية، أو ارتداء أقنعة مستعارة من سوق الشخصيات المزيفة، بل يكتفون بعيش حياتهم الخاصة للتعبير عن فرادة شخصيتهم، يمتحون دائما من نبع الحب؛ حب الحياة الذي يغذي فيهم هذا الإقبال الحيوي النشيط عليها، غير آبهين ولا مبالين بالنتائج والمكاسب التي يلهث الكبار لجنيها على حساب أنفسهم،  فما يهمهم ويعنيهم هو النشاط التلقائي الذي يحتضنهم و يعطيهم شعورا أصيلا حقيقيا وعميقا بالحياة.

الملاحظ  والمتأمل المُخلِص في عالم الأطفال الخصب، الذي تؤسسه وتثريه هذه التلقائية المدهشة، يكتشف أنهم يندفعون قولا و فعلا، فكرا و شعورا وخيالا، بكل حيوية وفق حمولتهم العاطفية الوجدانية و الفكرية  ومخزونهم الشعوري وطاقاتهم الداخلية النامية، وذلك بالفرح، الحزن، الضحك، الغضب، البكاء، الخوف، الحماس، الفضول، السؤال، .. يعبرون عن ذواتهم في مختلف الوضعيات بكل شجاعة وثقة، يؤكدون وجودهم الذاتي بكل ما يملكونه من إيمان بالحياة ودون الحاجة إلى تعقيدات ثقافية، أو التنكر بشخصيات أخرى لا تمت لوجودهم الأصيل بأية صلة لا من قريب ولا من بعيد.

الغريب والداعي للحيرة والقلق بعد  استعراض هذا المشهد الطفولي الحيوي الجميل، هو أن هذه التلقائية في ترجمة المشاعر والأفكار  إلى سلوكات وأفعال وحياة معيشة، غائبة أو شبه غائبة في عالم الكبار، الذين كانوا يوما ما أطفالا صغار، بل على العكس، فتصرفاتهم تثبت بالملموس أنهم يصدرون كثيرا  في الغالب عن نوع من التكلف و التصنع وكبت انفعالاتهم الوجدانية وتعويضها بأفعال أخرى اصطناعية وغريبة عن الذات. هذا الانتقال الدراماتيكي يدفعنا جميعا لطرح عدة أسئلة : ما سبب هذا التنازل الخاسر في حق الإنسان للتعبير عن ذاته بكل حرية؟ هل المسألة ليست اختيارا منه وأنها نتيجة ظروف قهرية صنعتها يدُ الإنسان نفسه؟

إذا كان كذلك ألا يُعتبر الإنسان هنا عدوا لأخيه؟ هل يمكن أن نفترض أن للتربية و التنشئة الاجتماعية دور في التأثير على هذه التلقائية كتجلٍّ من تجليات الحرية واستبدالها بنوع من الآلية الخاضعة؟ إذا كان هذا الافتراض صحيحا فكيف يمكن لهذه التربية بما تزعمه في شعاراتها وأهدافها و مبادئها أن تنمي فينا الامكانيات الإنسانية و المهارات الوجدانية و الفكرية … وهي تقتل أغلى وأنبل ما فينا : حرية القول والفعل؟ أم أن التربية هنا تتحرك بدوافع خارج الطبيعة الإنسانية وما تقتضيه من آليات للنمو والتوسع والازدهار؟ هل نستطيع أن نتجاوب بشكل فعال وخلاق ومنتج مع ممارسة تربوية تستأصل منا المبادرة للتعبير الحر عن الذات أم أن التجاوب يتخذ منحى النكوص والتقهقر؟

نتساءل والأمل يحذونا : هل من سبيل للتربية- التي تنشد خدمتنا وإنماءنا – تستطيع فيه تحقيق أهدافها في الكائن الإنساني دون أن تدمره وتجهز على حقه في التواجد ذاتيا وانفعاليا أم أن منطق التربية عندنا يستلزم إقصاء الفرد التلقائي لخدمة غايات لا تتوافق مع هذه التلقائية المشاكسة ؟هل المجتمع ضد الإنسان ؟ هل التربية التي لا تحافظ على حريتنا التي ولدنا بها تنتج الحياة أم أنها معمل لإنتاج معالم الموت والمرض ؟. أسئلة كثيرة لا تنته، نطرحها حول هذا الموضوع المركب و المتشابك والمعقد، نظرا لأنه يمس تيمة الحرية وعلاقتها بالمجتمع الذي يبدو بمؤسساته التي تحتضن الفرد أنه في علاقة صراع و توتر مع حرية الإنسان، مع يمكن أن يؤول إليه هذا الصراع من مآلات ونتائج متباينة بتباين الأطراف وشدة التوتر الحاصل.

نولد جميعا بعد مخاض مؤلم، ويكون الصراخ و البكاء أول تعبير لنا عن وجودنا هنا، وهو تعبير أصيل لأنه نابع من تجربتنا الانتقالية من الوجود الجنيني إلى الوجود الإنساني، نبدأ مذاك بالتعبير عن احتياجاتنا للدفء واللذة والحنان والحب، وعن الألم والخوف بالبكاء الشديد. تمضي الأيام والسنون ونحن نكبر، نكتسب اللغة كأداة تعبيرية، تزداد حاجتنا للتعبير والتواصل كلما زاد وعينا بذاتيتنا التي تنفصل عن الآخرين، وتتخذ طريقها للاستقلال والوعي، ونشعر رغم وجود تلك الروابط التي توحدنا بالأسرة أننا كيان مستقل واحد، تحركه عدة مشاعر وأفكار وهواجس وأحلام ورغبات و سلوكيات واحتياجات وأسئلة…، لكن المؤسف أن هذه الرحلة التي يخوضها الطفل بتلقائيته وعفويته في أن يكون ذاته مستكشفا نفسه، تبدأ بالاصطدام بأشكال متنوعة من الكبت القادمة من المجتمع عبر ممثلها الأول : الأسرة، لأنها متشبعة بثقافته و متشربة لممارساته التنشئوية وأحكامه القيمية الأخلاقية التي فرضها على الخاضعين له، وهذه الأشكال المتعددة من الكف والقمع تأتي في قوالب مقبولة اجتماعيا حتى لا تبدو بثوبها الملطخ كجريمة في حق الأطفال والانسان عموما، وذلك باسم التأديب و التربية و التهذيب و الواجب و الاحترام و الأخلاق و الفضيلة والنجاح والطاعة… وغيرها من التسميات واليافطات التمويهية التي لا تنسجم ولا تتطابق مع تلك الممارسات بالنظر لنتائجها وانعكاساتها  .

يلتقي الطفل في سن مبكرة بسيل جارف من الاكراهات والضغوطات التي تقاوم تلقائيته بشكل متواصل، وهو لا يستطيع أن يواجهها و ينتصر عليها، فيُجبرُ على الخضوع والسكوت والتقليل من الأسئلة والجلوس بطريقة معينة باسم الأدب وحسن التربية. فهل نجاح هذه الأخيرة حقا يتجلى في توظيفها هذه الأساليب البوليسية أم أن رسالتها أسمى من مجرد أوامر ونواهي زجرية لا تستجيب لتلقائية ودينامية الأطفال؟ التلقائية  التي تحتاج للاحتضان وحسن التفهم والإنصات و المرونة حتى لا تتحول رسالة التربية من بعدها الإنساني في التهذيب إلى تعذيب  واستئصال حيوية الإنسان وتحويله إلى كائن مجهول مغترب عن نفسه، لأنه يتصرف ويعيش منسجما مع الشخصيات التي فُرضت عليه عنوة، معتقدا أو متوهما أن ذلك هو طريقه الوحيد الأوحد لينمو ويحقق ذاته داخل سياق ثقافي معين، ويصل فيه لأهدافه وأحلامه، إنه يصدق بكل سذاجة تحت تأثير السلطة الخارجية التي تتحول فيما بعد إلى سلطة داخلية أن ما يقال له حق وصواب وأن إظهار تلقائيتنا وانفعالاتنا الداخلية هي عار وقلة أدب أو اضطراب وجنون و اختلال عاطفي  أو غياب النضج العقلي… وغيرها من التسميات والعناوين التي تتفق جميعا في تجاهل واحتقار أصواتنا الداخلية، أو عجز في فهم أن الإنسان أكبر من ثقافته ومجتمعه الذي صاغ مجموعة من المعايير التي تحكم على جودة الشيء ورداءته حسب منظوره ومصالحه هو. في مقابل هذا الجهل بخصائص الإنسان الأصيلة التي لا تشترى ولا تباع، يتم اعتناق الأنماط الجاهزة والسلع الرائجة، والاذعان لما يأتي من الخارج /المجتمع القائم أساسا على أفراد ضحوا بأنفسهم للدفاع عن مؤسسات كثيرة يجهلونها غالبا ويعيشون في كنفها دون أن يفهموا علاقتهم بها، وأوجه الاختلاف و التنافر بينهم كذوات إنسانية حرة وبين هذه المؤسسة التي تتكفل باحتضان هذه الذوات المفردة  في أنظمة محددة   تسعى لتوفير  شروط العمل والانسجام المجتمعي وذلك مقابل ثمن باهظ يدفعه المنخرطون في الآلة الاجتماعية.

بعد الأسرة التي تعتبر أول حاضن للطفل، يتعرف هذا الأخير على مؤسسة أخرى تنادي منذ نشأتها بالتعليم والتربية وغرس القيم والأخلاق في الناشئة، وتهذيب سلوكاتهم وتأهيلهم لتحقيق أحلامهم وتمكينهم للشعور بالسعادة و الفرح في الحياة، إنها المدرسة التي يقضي فيها الطفل ردحا زمنيا من طفولته ويفاعته وشبابه، بحيث يخبر في هذا  الانتقال من الأسرة إلى المدرسة هزة سيكولوجية في البداية، لأنه يبدأ بذلك مسلسل الانفصال من أسرته وأمه على الخصوص للتكيف مع وسط آخر بمواصفات أخرى وقانون جديد. يدخل  المدرسة للوهلة الأولى مصحوبا بأخته أو أمه أو أخيه أو جاره وكم هائل من الهواجس والمخاوف، ليكتشف عالما مغايرا تماما لما ألِفه في بيته، حجرات لها نوافذ تتوسطها ساحة، صفوف عمودية، سبورة سوداء معلقة، أستاذ ببذلة بيضاء  يمر على الصفوف بالأوامر والنواهي والسعي للحفاظ على جو من الانضباط لخدمة رسالة التعليم  والتربية. تقتحم هذه اللوحة الفسيفسائية مخيلة الطفل وفضاءه النفسي وحياته الهانئة بكل ما فيها من ألوان وخطوط وأشكال وتموجات… ، هذه اللوحة التي لم  يشارك  في رسمها واقتراحها أو اختيارها حسب ميولاته. تحت ضغط الواجب والالزامي ينخرط الطفل بكل ما أوتي من جهد لمشاركة حياته داخل هذه المؤسسة “الاجتماعية” ،و يُقتطع جزء كبير من يومه ليقضيه داخل الفصل وبين الصفوف العمودية المتراصة.

المتأمل في هذا المنعطف المصيري يجد أن شخصية الطفل  تشهد توترا وصراعا داخليا قد تنتج عنه اضطرابات ومشاكل نفسية معقدة مع توالي الأيام،  صراع قد يكون من أسبابه الرئيسية ذلك الاصطدام العنيف بين تلقائية الطفل التي كان يتمتع بها أكثر في أسرته وبين صرامة القانون الداخلي للمؤسسة، لأنه يُجبر على اعتناق أنماط وقوالب حتى يمكن  له أن ينضم وينتمي لفريق زملائه “المهذبين” المجتهدين ، واذا لم يخضع ويرضى بهذه الأشكال فسيكون العقاب و التوبيخ مصيره والزج به في قفص الأحكام القاسية التي  لا تكف عن ملاحقته نفسيا والحد من نموه الطبيعي.  ينهض هذا الطفل كل صباح قاصدا المدرسة ولكنه يرفض هذا الروتين داخليا، مما يذكي فيه نيران الصراع النفسي والمشاكسات الداخلية التي تنتزع منه ذلك التوافق والطمأنينة الداخلية والقدرة على إبداء رأيه بأريحية، فيكتسب على هذا المنوال شخصية آلية تساعده على التكيف مع وضعيات لم يشارك في صياغتها، وذلك لضمان النجاح والإطراء والشواهد في مقابل التضحية بشخصيته الأصيلة ونشاطاته الداخلية التي تحتاج للتفعيل والتوسع في بيئة  صالحة لذلك. فهل هذا هو مبتغى التربية الحقيقي الذي يتأسس على معايير كونية سليمة أم أن طرق وأساليب التربية هنا تحتاج لقليل أو كثير من التصويب والتعديل والتحرر من قوالب جامدة للاشتغال في أفق أوسع يستجيب لصيرورات النمو الإنساني ؟.

إضافة إلى قمع وكبت تلك التلقائية المرحة التي توحد الأطفال مع بعضهم البعض ومع العالم الخارجي، يصبح الخطأ كمكون أساسي ومهم في الوجود الإنساني للوصول لغاية الفهم والصواب والفضيلة والمعرفة ضمن هذا المنظور الأحادي الضيق، جريمة وعيبا يستوجب العقاب والتحقير والازدراء، وفي هذه التربة تنمو وتنبت مشاعر العجز والدونية والذنب المهيمنة على الطفل، التي تصبح الملامح العريضة لشخصيته في قادم السنوات، فيغدو غير قادر ابدا على خوض مسيرته بثقة، مستقلا ومتسلحا بسعيه نحو المعرفة، وينظر لأخطائه نظرة موضوعية بعيدا عن المشاعر التي ورثها من بيئته المريضة، وبهذا لا يستطيع أن يُثري شخصيته ويتقدم نحو تطوير ذاته، إنه يصبح ضعيفا أمام نفسه، خائفا من أخطائه التي أُفهمَ على أنها فضيحة وعار وعِصيان،  فيُضرب عن الحياة ويرفض التغيير ويختار التقهقر والانكماش والتقوقع على ذاته التي تحتاج لمنقذ اسطوري، يمتلك السلطة لينقذها من مشكلتها العويصة ويحررها، يصفح عنها بمسحة على الرأس أو كلمة يلقيها. إنها ذات منهزمة أمام نفسها بسبب التأثير الخارجي والممارسات التسلطية.

داخل هذه المؤسسة الاجتماعية ،تغدو أيضا الحركة المبالغ فيها من قبل بعض الأطفال، النابعة اساسا من نشاط الطفل واندفاعه بقوة لاكتشاف العالم، هذه الخصلة المميزة للأطفال غالبا لا تلقى ترحيبا في هذا المنطق الخاص للتربية، ولا حتى اعتبارها معطى مهم للعمل و الاشتغال لتوجيه الطبيعة البشرية باللين وإثراء أساليب التعامل والتفكير، بل تعتبر إزعاج واستفزاز وتمرد على القانون وعدم انصياع لسلطة الأستاذ، وأحيانا أخرى يتم اعتبارها مرض واضطراب يستدعي التدخل حتى لو كانت في حدودها العادية الطبيعية. إن هذا الانضباط المنشود في هذه الممارسة قد يحقق بعض الأهداف التعليمية /التعلمية المسطرة وفق خطة مسبقة، وقد يأتي ببعض النجاح المرغوب والشواهد الورقية، ولكن السؤال الذي يداهمنا : هل بإمكان هذا أن يتحقق دون أن يكون على حساب شيء ثمين فينا؛ تلقائيتنا وإبداعنا ونشاطنا الداخلي الأصيل ؟ وهل النجاح المجتمعي الذي يتسابق الناس حوله مشروط بدفن شخصيتنا وخبرتنا الحقيقية وتعويضها بالمزيف والرخيص ؟  إذا كان هذا النجاح هو خسارة أنفسنا فلمن ننجح إذن؟

وهل يمكن القول هنا أن طبيعة الإنسان المتأصلة تتعارض مع معايير النجاح والتفوق التي وضعها المجتمع وشارك في ترسيخها داخل الاذهان عدة مؤسسات تابعة له ؟، وقد نضيف   : هل من سبيل آخر للتربية تستطيع فيه تهذيب الطفل وإكسابه القدرات والمهارات الوجدانية المعرفية.. التي تساعده على النمو دون تحويله إلى شيء، كائن آلي مؤدب، ظريف يفتقد لشجاعة المبادرة في الفعل كشرط لاثراء تجربته الفردية؟

يعيش الطفل في خضم هذه الحرب الضروس الطاحنة بين قواه الداخلية التواقة للحرية وبين القوى الخارجية المانعة التي تحاول فرض نفسها تحت كل المبررات المسوغة لتحقيق غاياتها، متأثرة بالنماذج و الأنماط الجاهزة المصنوعة داخل المجتمع، حيث  يتحول الإنسان الصانع المتحكم في الأشياء إلى مجرد مصنوع منهزم حزين الروح، يرزح تحت ثقل ووطأة الآلة الاجتماعية والثقافية التي تسعى بعملياتها وسُلطها المعلومة المجهولة، إلى توجيه الأفراد لحياة محددة مرسومة، بكل ما تحمله هذه الأخيرة من أنشطة وممارسة تصب لتحقيق “النجاح الموعود والعيش المرغوب “. بهذا النهج يكتسب الطفل مع مرور الأيام، وبفضل التكيف و التأقلم مع البيئة والمناخ السائد، شخصية طيِّعة، تحركها الدوافع والمثيرات الخارجية من دعايات واشهارات وأفلام…. فيقتات على الفتات الذي يقدم له بغلاف الفن الرفيع والخبر الصادق والسلعة الجيدة. إنه لا يعود قادرا على أن يكون منسجما مع صرخته الأولى حين خرج إلى هذا العالم، ولكنه أصبح متماثل تماما مع مطالب أخرى أرغمته أن يستجيب لها بقوتها الناعمة عبر إغراءات النجاح والتفوق والمكانة والمنصب… ، فيصل إلى التكيف والتوافق الاجتماعيين اللذين يجعلانه عضوا يحمل كل الصفات التي تجعله مقبولا ضمن السائد. هنا يُطرح السؤال : هل التكيف هنا وسيلة للتمويه والتستر على الجريمة؟ هل هو غاية كما يُزعم ام أنه جزء من المشكلة يستدعي القلق؟. فحين لا يستجيب الطفل ولا يذعن للسلطة التي تمارس عليه بآليات تربوية تفتقد للبعد الإنساني، فإنه يوصم بكونه حالة شاذة خارجة عن الإطار العام، فيُمنع  أن يكون نفسه، بل أن يكون للمجتمع و الأنماط والقوالب و الأيديولوجيا..، وإن قرر أن يكون لنفسه، عليه أن يدفع الثمن الغالي على ذلك.

بالعودة للتلقائية التي تنشد الحياة والحب والمعرفة، فإنها بدون ريب حاملة لأسباب السعادة والثقة والقوة والإرادة والنمو والتوازن والابداع والتكامل بين العقلي العاطفي، المادي والروحي، وسبيل كل الأفعال الإنسانية الخلاقة القادرة على تأكيد الوجود الإنساني الحر، أما حين تُقمع هذه التلقائية وتكبت  فإن كل المعاني السابقة تتحول إلى عكسها كالحقد والكراهية والضعف والشك والتفكك والضياع و التعاسة والاختلال والأفعال النمطية المزيفة التي تقدم لشراء سلعة السوق الرائجة، إن الحياة تُصاب بالشلل والسيرورة الطبيعية الفطرية للنمو تتعطل، وتنتكس لتتخذ مجرى آخر ومنحى للتقهقر والتراجع الذي يأتي أحيانا بمظهر التقدم  والنمو المرغوب فيه مجتمعيا. تتأثر شخصية الطفل تأثرا بالغا سواء في علاقته مع نفسه أو مع الآخرين، ومع الحياة عموما، فهو يشعر داخليا بقيد يكبله وعجز يمنعه من التعبير الصريح وصيانة أفكاره وتصوراته التي تُعتبر كنزا وخزانا لكل إبداع، ويُصاب الخيال بالانكماش والبرود، هذا إن لم ينعدم ويذبل ويموت، فضلا عن تراجع لياقة طرح السؤال كأهم سمة لوجود الأطفال في العالم المليء بالأجوبة الجاهزة داخل العلب، فالسؤال لا يمكن أن يتوافق أبدا مع منطق يحارب فطرة الإنسان التي تسعى به لفهم الأسرار وكشف المستور وإماطة اللثام على المجهول، وإذا غُيب السؤال يغدو الإنسان كائنا ما كان مجرد مسجلة يردد الأجوبة والأفكار المشحونة وحافظ جيد لما تم تلقينه، وحتى التفكير ينطبع بطابع الاجترارية واستهلاك المعرفة المقررة بدل أن يكون إنتاجا مستمرا للمعاني والرؤى المتولدة من الداخل، والقادرة على تقديم أجوبة وحلول بطريقة أصيلة، بعيدا عن تلكم القوالب التي تدعي لنفسها الصلاحية في كل شيء وعلى كل الأفراد. داخل هذه الأجواء المتوترة يعيش الطفل ساخطا ويكتنفه شعور ممزوج باليأس والحزن العميق المخفي أحايين كثيرة برداء التكيف والتوافق والنجاح وكل مظاهر البهرجة، هذا الحزن الذي يسلبه ذلك التواصل المرح التلقائي والفرح مع نفسه والناس والتجارب، فيتيح له إمكانية الاتحاد والانسجام مع صوته الداخلي وواقعه الموضوعي، وحينذاك فقط يشعر بصدق أنه جزء حيوي نشيط لا يتجزأ من هذا الكل، وعضو مهم فعال في جسم الحياة.

لم نقصد بالتربية في هذا الحديث كعبارة عن ممارسات وتفاعلات تتم داخل مؤسسة ما محددة بزمكان محدد فقط، أو عن تفاعلات تتم داخل حجرة صغيرة، لأن مفهوم التربية أعم وأشمل وأكبر من وضعها داخل هذه الخانة، وذلك لكونها حاضرة بشكل مباشر أو ضمني وبكل الطرق المتاحة والمعرفة المتوفرة في مناحي الحياة المختلفة وفضاءاتها المفتوحة المؤسساتية وغير المؤسساتية. وعلى ذكر المؤسسة هنا، بالأخص المدرسة التي تعتبر رافعة من روافع التربية والتعليم والتقدم داخل أي مجتمع كان، فهي لا تقوم إلا على أساس سلطة معينة، وهذه الأخيرة ليست مدعاة للتذمر والتمرد طالما تشتغل في حدودها المعقولة وتلزم الأفراد الخاضعين لها بالالتزام و الانضباط بما يخدم مصلحتهم و نموهم. هنا نطرح السؤال حول ماهية السلطة التي تشتغل ضمن الحدود المعقولة و التي يجب أن تكون حاضرة؟ وما هي صفاتها و مميزاتها ؟

تلقائية الأطفال ورهان التربية - AgadirToday

يحضرني المفكر الكبير اريك فروم الذي ميز في كتابه “الهروب من الحرية” بين نوعين اثنين من السلطة، الأولى عقلانية، كتلك الموجودة بين المدرس و التلميذ، حيث لا تتصادم تفوقية الأستاذ مع مصلحة التلميذ، بل تخدمه وهي شرط لمساعدته وتأهيل الشخص الخاضع لها حتى يصبح أفضل، بحيث كلما تعلَّم التلميذ إلا وتقلصت تلك المسافة بينه وبين معلمه فضلا عن مشاعر الحب والاحترام والامتنان والرضا السائدة بين الطرفين. أما السلطة الثانية التي يقدم لها فروم مثال السيد والعبد لتوضيحها، فهي تلك” السلطة الكابتة”، بحيث تكون التفوقية هنا شرط استغلال العبد واستنزافه، مقابل فتات قليل يظفر به، وهذا الأخير يسعى بكل ما أوتي من جهد إلى الطاعة والانصياع وتقديم الخدمات، حتى يستطيع أن يحصل على أدنى شروط العيش الضرورية للاستمرار، والموقف السيكولوجي القائم هنا كما يعبر عنه فروم هو الحقد والعداوة التي يتم كبتها نظرا لهيمنة القوي وسطوته على الضعيف الذي لا حيلة له، ويتم تحويل هذه المشاعر إلى نقيضها المزيفة كالمحبة المفرطة والتقديس والرضا والإعجاب والتعلق… إن مصالح الطرفين في هذه العلاقة متعارضة ومتضاربة، والعبد هنا لا يقوى على التعبير والدفاع عن حقوقه المهضومة، خوفا من الطرد واللعن والعقاب الشديد من سيده. نتساءل هنا : أي السلطتين أجدر لخدمة غايات ومقاصد التربية النبيلة وتحقيق ما يليق بالناس الذين ولدتهم أمهاتهم أحرارا بتعبير الصحابي الجليل؟ وما هو مقياس نجاح سلطة ما؟ هل في مجرد امتلاكها وحيازتها أم في النتائج المترتبة عنها؟

ختاما، نود أن نشير فقط أن هذه الكلمات اليسيرة لا تستطيع أن تحيط بكل جوانب الموضوع كلية، فهو أكبر بكثير وأعقد من هذه المقالة القصيرة التي حاولت فقط إثارة الموضوع. إن المشكلة التي تمس تلقائية وحرية الفرد قد يترتب عنها مآلات كثيرة نجهلها ولا يمكن معرفتها أبدا طالما نوثر السكوت والكتمان على ضجيج النقاش والسؤال.

لا يبقى لنا في هذه الأسطر الأخيرة، إلا أن نعبر عن قلقنا  وفضولنا بطرح الأسئلة:

هل نستطيع أن ننقذ أطفالنا بتطوير ممارسات تربوية جديدة تستجيب للطبيعة الإنسانية السليمة ؟ هل نستطيع أن نكسب الرهان ونحافظ على تلقائية الإنسان في عالم تحكمه الآلة والتقنية، ويطبعه التماثل والتطابق ؟ كيف يمكن أن نجعل من التربية وسيلة تتكيف مع الطبيعة البشرية للوصول والعمل على خدمة النشء ونتجنب كل ما يجعلها تنحرف عن مسارها فتؤدي للتدمير والخراب؟ هل نستطيع أن نحافظ على تلكم الصورة الفنية البهية والريشة الإلهية التي تُحرك فينا ذلك الطفل الداخلي دون تشويهها وتلطيخها بالشوائب والتشققات وذلك باسم مبرراتنا الكثيرة وأسمائنا التي لم ينزل بها سلطان؟

هل نستطيع أن نبدع تربية تستجيب لحاجاتنا الفطرية الراسخة بدل تركيز كل الاهتمام على التوافق الاجتماعي والحصول على وظيفة ومنصب مُحترم؟ هل يمكن حقا أن نطمئن إذا كان بناء المجتمع ظاهريا متماسك صلب في مقابل البناء الهش المغشوش للفرد الإنساني ؟ أيةُ فلسفة نحتاج حتى نبلور فهما جديدا يتسع ويتلاءم مع الإنسان باعتباره الغاية ومحور الاهتمام؟ فلسفة تساعدنا أن ننظر للتربية كإيمان بالإمكانيات الإنسانية التي تتبرعم وتنفتح بفعل تأثير التربية بدل جعلها مرادفة للتبخيس والتيئيس وإنتاج الموت.

بقلم :أيوب بولعيون

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى