
الجهات التاريخية الكبرى في المغرب، مقاربة جيوسياسية ومحاولة تحليلية في تجارب سوس والصحراء/ الجزء 01
- الحسين بو الزيت //
مساهمة في النقاش الدائر في بلادنا المغرب، حول الجهات والتقطيع الترابي وأنماطه المختلفة، ارتأينيا ان نساهم بهذه المحاولة والتي تجسد رؤيتنا لهذا الموضوع بوصفنا واحدا من الباحثين في التاريخ المغربي.
وذلك تحت عنوان:
الجهات التاريخية الكبرى في المغرب، مقاربة جيوسياسية ومحاولة تحليلية في تجارب سوس والصحراء.
يُعدّ التاريخ المغربي بمستوياته المتعددة وطبقاته الاجتماعية والثقافية الغنية، من أكثر التجارب التاريخية تعقيدًا في شمال أفريقيا. فقد تراكمت عبر القرون سرديات متعددة حول الدولة والمجتمع، انطلاقًا من مقاربات أجنبية سعت، خلال الحقبة الاستعمارية، إلى تأطير المغرب ضمن منظورات “الشرق العجائبي”، وصولًا إلى المدرسة التاريخية المغربية الحديثة التي أعادت الاعتبار للمصادر الوطنية، وسعت إلى بناء خطاب علمي موضوعي حول سيرورة تشكل الدولة والمجتمع المغربيين(1).
وفي هذا السياق، ظلّت ثنائية “المخزن والقبيلة” محورًا رئيسًا في الدراسات التاريخية المغربية، حيث شُكّل المخزن باعتباره مركز السلطة السياسية، والقبيلة كفضاء اجتماعي منظم له قواعده الخاصة في الحكم والولاء. غير أن المستوى الوسيط بينهما، أي “الجهة التاريخية”، ظلّ نسبيًا غائبًا عن التحليل الأكاديمي، رغم أنه يمثل الإطار الجغرافي والاجتماعي الذي تتفاعل فيه البنيات السياسية والاقتصادية والثقافية.
الجهات التاريخية الكبرى في المغرب
من خلال تتبع مسار التطور التاريخي، يتضح أن المغرب عرف منذ العصر الوسيط على الاقل تبلور جهات تاريخية كبرى ذات أدوار جيوسياسية واقتصادية متميزة، يمكن تصنيفها، مع مراعاة التحولات الزمنية، على النحو الآتي:
1. الريف/الهبط: مركز المقاومة والتنظيم الاجتماعي الصارم.
2. تامسنا/الغرب: السهل الأطلسي، منبع الإنتاج الزراعي والتواصل البحري.
3. تافيلالت/الوسط: النواة السياسية والاقتصادية للدول المغربية الكبرى في العصر الحديث والمعاصر.
4. دكالة/الرحامنة: مجال التفاعل بين الحاضرة والفلاحة والإنتاج الحضري.
5. سوس/درعة/الصحراء: الفضاء الجنوبي، الممر التجاري نحو أفريقيا جنوب الصحراء، وفضاء التكامل الاقتصادي والثقافي. ومهد الامبراطوريات الامازيغية
العلاقة الجيوسياسية بين سوس والصحراء
تُظهر القراءة الجيوسياسية للتاريخ المغربي أن العلاقة بين سوس والصحراء لم تكن مجرد تواصل جغرافي أو تجاري، بل شكّلت عبر القرون نظامًا تكامليًا يتأسس على التفاعل الاقتصادي والثقافي والسياسي. فـ”سوس” مثلت المنفذ الحضاري والاقتصادي نحو البحر، في حين كانت “الصحراء” عمقها الاستراتيجي الممتد نحو إفريقيا.
وقد أكّد المؤرخ عبد الهادي التازي في دراساته الدبلوماسية على أن هذا الامتداد الصحراوي كان من ركائز القوة المغربية، إذ مكّن الدولة من التحكم في طرق التجارة العابرة للصحراء ومن ربط شمال البلاد بجنوبها عبر شبكة من التحالفات القبلية والمراكز التجارية (2). أما إيفونيز لوبوفيك، فقد أبرز في أبحاثه حول الطرق التجارية المغربية دور هذه الشبكات في توطيد وحدة المجال المغربي، واعتبر أن العلاقة بين سوس وتمبكتو كانت أكثر انتظامًا مما كان يُعتقد، وأنها شكلت عمودًا فقريًا للحضارة المغاربية-السودانية(3).
وتشير شهادات المؤرخ المغربي أبو القاسم الزياني في كتابه الترجمان المعرب عن دول المشرق والمغرب إلى أن القوافل التي كانت تنطلق من سجلماسة وسوس في اتجاه تمبكتو لم تكن تنقل الذهب والملح فحسب، بل كانت أيضًا وسائط للمعرفة واللغة والدين (4). فقد حملت معها علماء وفقهاء وصناعًا ساهموا في تعميم نمط من الثقافة الإسلامية المغاربية المتشبعة بروح التسامح والانفتاح.
واستمر هذا الارتباط العضوي بين سوس والصحراء حتى العصور الحديثة، حيث ظلت القبائل الصحراوية – مثل آيت أوسى وتكنة – ترتبط بعلاقات المصاهرة والتحالف الاقتصادي مع القبائل السوسية ضمن منظومة من التعاون والتكامل الاجتماعي. وتوثق وثائق الأرشيف المخزني، المحفوظة بـخزانة القرويين بفاس ومكتبة الأسرة المرينية، وجود مراسلات رسمية وعقود البيعة بين شيوخ هذه الجهات وسلاطين المغرب، مما يعزز الطرح القائل بوحدة الفضاء السوسي-الصحراوي ضمن المشروع السياسي المغربي عبر العصور (5).
إن دراسة هذا التداخل الجهوي لا تكتفي بإبراز البنية الاقتصادية المشتركة، بل تكشف أيضًا عن وعي تاريخي بالانتماء إلى مجال حضاري موحد، حيث كانت سوس والصحراء تمثلان جناحين متكاملين لمغرب متجذر في إفريقيا ومفتوح على البحر والمحيط.
(يتبع)
*الحسين بوالزيت صحافي وباحث في التاريخ الحديث والمعاصر.
************
الإحالات والمراجع:
1. عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1992.
2. عبد الهادي التازي، التاريخ الدبلوماسي للمغرب من أقدم العصور إلى اليوم، دار نشر المعرفة، الرباط، 1990.
3. Yves-Loupovik, Les Routes Transsahariennes et le Maroc Médiéval, Paris, CNRS, 1974.
4. أبو القاسم الزياني، الترجمان المعرب عن دول المشرق والمغرب، تحقيق محمد حجي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1983.
5. وثائق الأرشيف المخزني، خزانة القرويين بفاس، المراسلات السلطانية (سلسلة القرن 18م).
الصورة من الانثرنيت.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News



