
صرخة المبدعين في زمن النسيان: على حافة الانقراض، الفن بالمركز.. القطار المتآكل في الأطراف
- الحبيب نونو //
غادرنا فنان الأمس، عمر الداحوس، عضو فرقة ARTGANA، برحيل صامت يختصر مأساة جيل كامل من الفنانين الشعبيين المغاربة. لم يكن رحيل الداحوس مجرد وفاة طبيعية، بل كان إعلاناً حاداً عن الوضعية الصحية والاجتماعية الحرجة التي يعاني منها صانعو البهجة الأصيلون، الذين قضوا حياتهم ينسجون قصص “المغرب العميق” بجهد الأجساد وسمو الأرواح، ليجدوا أنفسهم عند خط النهاية بلا تغطية صحية ولا حقوق مجاورة تصون كرامتهم.
هناك سرعة في قطار الفن والثقافة بالمركز، لكن قطارها في الوسط والشرق والجنوب تآكلت عجلاته، متوقفاً عقوداً، جاعلاً كل تفاصيل حياة فنانين تلو الآخرين تتحول إلى بيانات عزاء مؤلمة، في حين تبقى برامج التنمية الجديدة غائبة عن حسبانهم.
عمر الداحوس.. صدى الإحساس الصادق يرحل وحيداً
برحيل الفنان عمر الداحوس، تفقد الساحة الفنية صدىً خافتاً لروح الفن الأمازيغي الأصيل. الداحوس، الذي تتلمذ في مدرسة أمودو لفرجة الرما – أولاد سيدي علي بناصر، كان يحمل في أنامله وفلسفته الإيقاع الجماعي والنبض القروي، وبرع بشكل لا يجارى في عزف موسيقى “أجغايمي” ومرافقة “طبيلة تازوكزت”.
لقد شارك الراحل في تجارب فنية عظيمة، أبرزها الأغنية الخالدة للفنان عبد العزيز الشامخ (إيزنزارن) بعنوان “Ayt Lassl Anga” التي أُنتجت خلال المسيرة الخضراء، وهي الأغنية التي يمكنكم مشاهدتها عبر الرابط:
https://www.youtube.com/watch?v=349AiXeyWc8.
كان عمر بسيطاً وقنوعاً ونقياً مثل نايِه الذي لازمه، لكنه عاش ورحل وحيداً في بيته المتواضع بإنزكان، دون سند ولا تغطية صحية. رحيله يفتح جرحاً أعمق، لأنه يمثل نموذجاً مأساوياً للكثير من الفنانين الشعبيين الذين يعانون بصمت، يقاومون الموت البطيء، كما هو حال الفنان مصطفى باقا وغيره من الأسماء التي ما تزال للأسف اللائحة مفتوحة عليها.
الحقوق المجاورة: الاستغلال في عصر اليوتيوب
إن مأساة الداحوس والفنانين من جيله تكمن في كونهم “جيل الزلط” الذي لم يلج المدرسة، فغالبهم لا يعرفون الكتابة ولا القراءة. هذا الجهل بالحقوق هو الثغرة التي ينفذ منها المستغلون.
لقد غادر الفنان المُطَر بإبداعاته قنوات اليوتيوب بعد أن عمل مع العديد من المنتجين والفرق الفنية، لكنه رحل بلا حقوق مجاورة ولا تعويضات، ليستمتع الآن الناجون بعائدات حقوقه، تاركين إياه ميتاً في بيته. والكل سيلومه لاحقاً لأنه لم يعرف كيف “يُصرح” بحقوقه.
الغد سيأكلون من عرق الداحوس، بينما المكتب المغربي لحقوق المؤلفين والحقوق المجاورة (BMDA)، والذي من المفترض أن يحمي هؤلاء الفنانين، قد “يؤدي” للمنتجين الذين لم يصرحوا أصلاً بحقوق المشتغلين معهم، مما يضاعف من دائرة الاستغلال والظلم في حق المبدع الأصيل.
كنوز المغرب العابرة للقارات على حافة الانقراض
بعيداً عن الفنانين الشعبيين، تتفاقم الأزمة لتشمل كنوزاً تراثية مغربية أخرى، مثل فنانين السيرك والأكروبات، الذين يُطلق عليهم “جيل الزلط” أيضاً.
صناع المجد العالمي:
هذا الجيل رفع راية المغرب خفاقة فوق الأبراج البشرية التي شكلوها بأجسادهم الماهرة، وطافوا ربوع العالم لُيبهروا العالم في أعرق محافل السيرك الدولية منذ بداية القرن التاسع عشر. لقد صنفوا كأحسن افتتاح في موندياليتو الأندية لكرة القدم بطنجة 2022.
نهاية مأساوية:
اليوم تفرّق شملهم، وكل واحد منهم يواجه مصيره ويعاني أقصى درجات الهشاشة الاجتماعية، ووضعاً صحياً متردياً بعد سنوات من العمل الشاق والمخاطر. هؤلاء النجوم الذين أضاءوا سماء العروض العالمية لم يجدوا من يضيء دربهم بعد أن خبت الأضواء! لم يشملهم دعم أو مساعدات إنسانية تليق بتاريخهم وتضحياتهم.
نداء أخير:
نم قرير العين يا عمر، فقد كنت فناناً حقيقياً في زمنٍ يغيب فيه الاعتراف. إن رحيلك هو إنذار أخير: لا تدعوا هذا الكنز التراثي ينقرض في صمت!
يجب أن تتحول هذه العزاءات إلى صحوة وطنية عاجلة لـ:
* توفير تغطية صحية فورية وشاملة (AMO) لكل فنان شعبي ومبدع تراثي، خصوصاً الجيل الذي لا يملك القدرة على تسوية وضعيته الإدارية.
* فرض رقابة صارمة على المنتجين وقنوات اليوتيوب لضمان حقوق المؤلفين والحقوق المجاورة، وتفعيل دور المكتب المغربي لحقوق المؤلفين لحماية الفنان الأمّي.
* إطلاق برنامج إنقاذ عاجل لدعم الفرق الفنية التراثية العريقة والمبدعين الشعبيين في الأقاليم المهمشة.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
الحبيب نونو
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News



