الرأيالمغرب اليوم

المغرب بين رهانات الدولة الاجتماعية وتحديات تجديد النخب

  • بقلم: حسن كرياط//

لم يعد النقاش حول مستقبل المغرب مجرّد جدل سياسي ظرفي، بل أصبح سؤالًا استراتيجيًا يلامس جوهر المشروع المجتمعي الذي اختارته المملكة منذ بداية العهد الجديد. فبين واقع التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة، وبين طموح بناء دولة اجتماعية عادلة ومنصفة، يبرز التحدي الحقيقي: كيف يمكن للمغرب أن يزاوج بين الإصلاح السياسي والتحديث الاقتصادي والاجتماعي دون أن يفقد بوصلته الوطنية؟

من الواضح أن السنوات الأخيرة شكّلت منعطفًا حاسمًا في مسار الدولة المغربية، سواء من خلال ورش الحماية الاجتماعية الذي اعتُبر ثورة اجتماعية غير مسبوقة، أو من خلال المشاريع الكبرى المرتبطة بالبنيات التحتية، والطاقة المتجددة، وتحلية مياه البحر، وتهيئة الأقاليم الجنوبية، وصولًا إلى الاستعداد لتنظيم مونديال 2030 إلى جانب إسبانيا والبرتغال. كلها مؤشرات تؤكد أن المغرب يسير بثبات نحو تحقيق رؤية تنموية متكاملة، تضع الإنسان في قلب السياسات العمومية، وتربط بين العدالة الاجتماعية والفعالية الاقتصادية.

لكن، في مقابل هذه الدينامية الملكية المتواصلة، يظل السؤال قائماً حول أداء النخب السياسية التي يُفترض فيها أن تكون شريكًا فاعلًا في تنزيل هذا المشروع الوطني الطموح. فالمتتبع للشأن الحزبي يدرك أن العمل السياسي يعيش أزمة ثقة وتمثيلية، بسبب ما راكمته الممارسة الحزبية من انغلاق، وضعف في تجديد الخطاب، وابتعاد عن هموم المواطن اليومية. إن أغلب الأحزاب، بدل أن تكون مدارس لتأطير الأجيال وصناعة القيادات، أصبحت تشتغل بمنطق المغانم الانتخابية والتموقعات الظرفية.

إن الملكية المغربية اليوم تواصل قيادة التحول الوطني الكبير برؤية بعيدة المدى، تقوم على ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتجعل من الفعل السياسي وسيلة لخدمة الوطن لا غاية في ذاته. لذلك، فإن الرهان الحقيقي لا يكمن فقط في إصلاح المؤسسات، بل في إعادة تأهيل الحياة السياسية بما يجعلها قادرة على مواكبة الطموح الملكي، وإعادة الثقة بين المواطن والدولة.

ولعل الممارسة السياسية في المغرب بحاجة إلى نفس جديد يحررها من حسابات المصالح الضيقة، ويعيد الاعتبار للسياسة كفنٍّ لتدبير الشأن العام بعقلانية ومسؤولية. فزمن الخطابات الانفعالية قد ولى، وجاء زمن الفعل الملموس، الذي يقاس بمدى تأثيره على حياة الناس، لا بعدد الشعارات المرفوعة.

إن تجديد النخب السياسية ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة تاريخية تفرضها التحولات الجارية. فمغرب 2030 ليس هو مغرب التسعينيات، والعالم من حولنا يتغير بسرعة مذهلة. لذلك، فإن استمرار بعض الوجوه السياسية في احتكار المشهد دون تجديد في الفكر والممارسة لا يخدم سوى الجمود والرتابة. المغرب في حاجة إلى طاقات شابة، تحمل كفاءة فكرية ومهنية، وتؤمن بالوطن قبل الحزب، وبالعمل قبل الخطاب.

وفي هذا السياق، لا يمكن إغفال الرمزية العميقة للخطاب الملكي الذي يؤكد باستمرار على أن البناء الديمقراطي لا يكتمل دون مشاركة سياسية فعالة ومسؤولة. فالدولة الاجتماعية التي يسعى إليها المغرب ليست مجرد شعارات أو برامج ظرفية، بل هي مشروع حضاري يقوم على العدالة، وتكافؤ الفرص، وتوزيع عادل للثروة، بما يجعل التنمية شاملة ومستدامة.

إن ما يميز التجربة المغربية هو قدرتها على الجمع بين الواقعية والطموح؛ واقعيةٍ تعي تعقيدات الواقع وتحدياته، وطموحٍ يضع البلاد في مصاف الدول الصاعدة بثقة وثبات. وهذه المعادلة لا يمكن أن تنجح إلا إذا تضافرت جهود الدولة والمجتمع معًا، وتحررت السياسة من ثقافة الانتظار إلى ثقافة المبادرة.

في النهاية، يبقى السؤال الجوهري مطروحًا:
هل تدرك النخب السياسية أن اللحظة التاريخية الراهنة ليست وقت الحسابات الحزبية، بل لحظة بناء وطني شامل؟
وهل تستوعب أن المغرب يدخل مرحلة جديدة عنوانها المسؤولية المشتركة من أجل مغرب المستقبل؟

إن الجواب عن هذه الأسئلة سيتوقف على مدى قدرة السياسيين على الارتقاء إلى مستوى اللحظة، والانسجام مع الرؤية الملكية التي ترسم ملامح مغرب جديد؛ مغرب يليق بتاريخه، ويستحق مكانته بين الأمم.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى