الثقافةالرأي

العين الأخرى: في نقاش المفاهيم..سينما المؤلف

  • محمد بكريم//

إن مشروعية الفعل النقدي هي انبثاق من منطق كتابته الخاص. كنص يتمتع بالاستقلالية؛ في حواره الصريح مع النص المصدر (الفيلم). باختصار، إنها مشروعية ليست نتيجة إجماع أو اعتراف مؤسساتي. بل هي في ثنايا الخطاب الذي يحمله النص النقدي.

هنا تأتي مشروعية الدعوة لفك الارتباط مع بعض المفاهيم التي أصبحت بلا معنى.

أسوق كنموذج مقولة “سينما المؤلف” التي أصبحت بلا جدوى في عصر الرقمنة التي حولت كل واحد منا الى منتج ذاتي للصور (“كلنا مقاولون ذاتيين” كما جاء في مشهد سخري جميل في فيلم الثلث الخالي). اليوم “الكل يصور ولا أحد يشاهد”.

ولكن افتح قوس هنا للحديث شيء ما عن ميزات هذه السنيما – التي كانت بنت مرحلة انتهت تاريخيا:

فعلا، ما هي المبادئ الرئيسية التي سمحت بالانخراط في هذا المنظور؟ نظرة سريعة إلى الماضي مفيدة ليس فقط لتذكيرنا بالمفاهيم والممارسات، ولكن أيضًا لمساعدتنا على فهم المشكلة اليوم وتحديدها.

أولاً، على غرار ما كان يقوله فرانسوا تروفو، تتميز سينما المؤلف بالتعبير “عن عالم شخصي”. انه يندرج في منطق التعبير بالصور، وتصوير عالم الذات. وإذا رجعنا إلى نظرية وظائف اللغة لجاكوبسون، نحن هنا على مستوى الوظيفة التعبيرية، تلك التي تقع على جانب “أنا”، إلى يسار المحور التواصلي الشهير.

من هنا إلى الحديث عن سينما السيرة الذاتية، لا يفصلنا سوى خطوة لم يتردد العديد من المخرجين في اجتيازها. المرجع يبقى مرة أخرى تروفو، وخاصة فيلمه الأول “400 ضربة” نوع من سيرة ذاتية حول مرحلة المراهقة الصعبة التي عاشها. يصور غودار، من جهته، المرأة التي يحبها “آنا كارينا” في “الجندي الصغير”، “المرأة – امرأة”، “عش حياتك”، “بييرو المجنون”

من جهتهما يصور ريفيت وروهمر مكانًا يعرفانه جيدًا: باريس، وذلك في فيلميهما “باريس لنا” و “بُرج الأسد” على التوالي.  يستقر شابرول في قرية مراهقته في فيلم «سيرج الجميل”، بينما يصور جاك ديمي مدينة نانت، مسقط رأسه، في فيلم “لولا”.

لكن لدينا بالفعل معيار يمكن أن يساعدنا في تحديد “مؤلف” من الجنوب، أعني يوسف شاهين الذي جعل من السيرة الذاتية جزءًا أساسيًا من أفلامه (انظر “الإسكندرية – نيويورك”، الفيلم الذي جاء ليكمل ثلاثيته التي بدأها بـ “حدوته مصرية”).

ثانيا، هذه العودة إلى البيئات التي نعرفها “المؤلف” جيدًا تُفَسرُ برفض الزيف والاهتمام بالأصالة. الجزء الوثائقي/التوثيقي قوي جدًا. بالإضافة إلى ذلك، هذه السينما تلعب عمداً على الالتباس بين التخييلي والوثائقي على عدة مستويات من الإخراج، بدءاً من استخدام الديكورات الحقيقية، ومفهوم جديد لاختيار الممثلين مع الانفتاح على وجوه جديدة، بل وحتى الاستعانة بغير المحترفين، واستخدام أسماء مؤكدة في أدوار غير تقليدية عند الضرورة. ج. ل. غودار يتحدث عن الفيلم كفيلم وثائقي عن الممثلين. أود أيضًا أن أذكر اسمًا أطلق هذا المسار، وهو جان روش

معيار آخر استخدمه “المؤلفون” في سعيهم نحو الأصالة، وهو الحوار: التقاط صور حقيقية يعني أيضًا استخدام لغة الناس. فيلم مغربي من أواخر السبعينيات هو مثال عملي على هذا البرنامج، أعني بالفعل فيلم ليام آليام (1978) للمخرج أحمد معنوني.

ثالثا، جانب آخر مهم، لم نعد نكتب الأفلام بنفس الطريقة. لقد صاغت سينما المؤلف دراماتورجيا  خاصة بها تُفجر المخطط الكلاسيكي من الداخل، وتفككه من خلال حبكة بسيطة (غالبًا ما تكون الموضوعات ذات صلة بالشخصي أو بما يمكن أن اُسميه “ميكرو- مجتمع”…)؛ ومنطق مكان- زمني “يفرمل” شفافية السرد الكلاسيكي: اتساع اللقطة؛ الحذف؛ المونتاج الفكري (المرجع اليوم هو كل السينما الإيرانية الجديدة)…

رابعا، يمكنني أن أضيف أيضًا أنها سينما تعتمد كثيرًا على التناص: فيلم المؤلف يقدم متعة خاصة لعشاق السينما، وهي متعة البحث عن الإشارات والإحالات  السينمائية داخل الفيلم، بما في ذلك ما يتعلق بالاقتباس الذاتي. يحب المخرجون الإشارة إلى صور أو شخصيات متكررة؛ يمكننا الحديث عن شخصيات وسواسية…

خامسا، إنها أخيرًا سينما وجهة نظر، تشهد على واقع وحقبة زمنية معينة. “حركة الترافلينج مسألة أخلاقية”، على حد تعبير غودار مرة أخرى. عندما نقترب من الخر لتصويره، المسالة ليست تقنية فقط أو جمالية فقط…كلمة “شوتينج” الإنجليزية لها معنيين!!!

بشكل عام، يمكن القول اليوم إن ما انتشر عندنا تحت يافطة “سينما المؤلف” ظاهرة “مؤرخة” : فهي تنتمي إلى سياق محدد سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا ومؤسسيًا. إنها مدعومة بتقاليد؛ وتتغذى من بيئة متكاملة.  كما أنها نشأت في مواجهة واقع آخر/ سينما أخرى. جاءت بمثابة سينما مضادة لسينما سائدة في مرحلة ما (سينما “الجودة “الفرنسية، سينما هوليوود…). معطيات موضوعية لم تتوفر قط في المناخ الذي شهد بداية السينما المغربية: انظر بهذا الصدد النقاش الذي يجري بين شخصيات فيلم “أحداث بدون دلالة” حيث يتحدث جزء من المستجوَبين عن سينما غير موجودة أصلا.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى