
الزراعة الذكية مائيًا: طريق المغرب نحو أمن مائي مستدام
- بدر شاشا //
الزراعة الذكية مائيًا أصبحت اليوم من أعظم الثورات الفلاحية التي يشهدها العالم في مواجهة أزمة الماء، لأنها لا تعتمد على الأساليب التقليدية التي كانت تستهلك كميات ضخمة من المياه دون وعي، بل تعتمد على تقنيات حديثة تجعل كل قطرة ماء تذهب في مكانها الصحيح، فالعالم يتغير والمناخ يزداد جفافًا، والمغرب من الدول التي تعاني من ضغط مائي واضح خصوصًا في المناطق الفلاحية الكبرى مثل سوس واللوكوس ودكالة، لذلك لم يعد أمامنا سوى التحول نحو الفلاحة الذكية التي تفكر في الماء قبل أن تزرع، وتحسب كل شيء بدقة كما يفعل العلماء في المختبرات
الري الذكي هو القلب الحقيقي لهذا التحول، إذ لم يعد الفلاح يفتح صنبور الماء بطريقة عشوائية، بل يستعمل مجسات إلكترونية توضع في التربة تقيس نسبة الرطوبة وتربطها بتطبيق أو نظام يعتمد على الذكاء الاصطناعي، هذا النظام يحدد الكمية التي تحتاجها النباتات بالضبط دون زيادة أو نقصان، وهكذا يتم الاقتصاد في الماء بشكل كبير وتزداد الإنتاجية وجودة المحصول في الوقت نفسه، ومن جهة أخرى يتم اختيار محاصيل مقاومة للجفاف تتأقلم مع المناخ المحلي، فبدل زراعة نباتات تستهلك كميات مفرطة من الماء، يتم التركيز على الأصناف المحلية التي تتحمل الحرارة والعطش وتقدم مردودية جيدة
كما أصبح استعمال مياه الصرف المعالجة في الزراعة حلاً فعالًا لتقليل الضغط على الموارد المائية العذبة، حيث يمكن بعد المعالجة الجيدة استعمال هذه المياه في سقي الأشجار المثمرة أو المساحات الخضراء أو بعض المحاصيل الصناعية، وهنا يتحقق مبدأ الاقتصاد الدائري للماء، أي أن المياه المستعملة لا تُرمى بل تُعاد إلى الدورة من جديد، وهذا ما يُعرف بالزراعة النظيفة والمستدامة، التي تحترم البيئة وتستغل كل الموارد بذكاء
ولا يمكن أن تنجح هذه الثورة دون تكوين الفلاح المغربي وتعليمه كيفية إدارة الماء بدقة، فالفلاح هو العمود الفقري لأي تغيير حقيقي في المجال الفلاحي، لذلك يجب إنشاء برامج تحفيزية وتكوينية تشرح له بأسلوب بسيط كيف يمكنه تقليص الاستهلاك المائي دون التأثير على المحصول، وكيف يمكنه استعمال التقنيات الحديثة المتوفرة اليوم بأسعار معقولة، فالمعرفة هي أساس كل تحول ناجح
ومن بين الاتجاهات الحديثة التي أثبتت نجاحها عالميًا الزراعة بدون تربة المعروفة بالهيدروبونيك، والزراعة الدقيقة التي تعتمد على تحليل كل متر من الأرض عبر صور الأقمار الصناعية وأجهزة الاستشعار، هذه الأساليب تمنح للمزارع تحكمًا كاملاً في الماء والغذاء والتربة والإنتاج، وتقلل من الخسائر إلى أدنى حد، وهي مستقبل الفلاحة الذكية في العالم وفي المغرب أيضًا
وإذا تحدثنا عن الماء فلا يمكن أن نغفل عن أهمية إعادة استعماله، فكل قطرة تُستخدم مرتين هي خطوة نحو الأمان المائي، في الدول المتقدمة مثل سنغافورة أصبح هذا المبدأ أساس السياسة المائية، حيث يتم جمع كل مياه الصرف ومعالجتها لتُستعمل في الري الصناعي أو تبريد المصانع أو تنظيف الشوارع، بل وحتى في الشرب بعد المعالجة المتقدمة، وهكذا لا تضيع أي كمية من الماء في البحر أو الصرف الصحي، والمغرب يستطيع أن يسير في هذا الطريق خاصة في المدن الكبرى مثل الدار البيضاء والرباط ومراكش، حيث يمكن أن تُستعمل مياه الصرف في المساحات الخضراء بدل استعمال الماء الصالح للشرب، مما سيوفر ملايين الأمتار المكعبة سنويًا
الحماية البيئية للمجاري المائية بدورها عنصر أساسي في تدبير الماء، فالمياه السطحية والجوفية تتأثر مباشرة بتلوث الأودية والأنهار والبحيرات، لذلك يجب حماية هذه الموارد من التعديات العمرانية والتصريف العشوائي للنفايات الصناعية، والحفاظ على الغابات والمناطق الرطبة التي تُغذي المياه الجوفية وتمنع التصحر، كما يجب العمل على إعادة إحياء الأحواض المائية المتدهورة من خلال مشاريع بيئية مستدامة، فالماء لا يأتي وحده بل يحتاج إلى بيئة متوازنة تحميه
أما مسألة التخزين المائي فهي التحدي الأكبر في زمن الجفاف، إذ لم يعد كافيًا الاعتماد على السدود الكبرى فقط، بل يجب الاتجاه نحو ما يُعرف بالتخزين المرن، أي إنشاء سدود صغيرة ومتوسطة في القرى والجبال لجمع مياه الأمطار، وتغذية المياه الجوفية اصطناعيًا عبر ضخ الماء إلى باطن الأرض لحمايته من التبخر، وإنشاء خزانات حضرية تحت المدن لتجميع المياه الرمادية الناتجة عن الغسيل والاستحمام وإعادة استعمالها في التنظيف أو الري الحضري، هذه الطرق تجعل النظام المائي أكثر مرونة وتقلل من آثار الجفاف المفاجئ
ومهما كانت التقنيات والسياسات فإنها لن تنجح ما لم يتغير سلوك الناس تجاه الماء، فالماء لا يُدار من المكاتب بل من المنازل والمدارس والحياة اليومية، لذلك من الضروري نشر ثقافة ترشيد الماء منذ الصغر، وجعلها جزءًا من التربية المدنية والتعليم والإعلام، حتى يشعر المواطن بأن الماء مسؤولية جماعية، كما يجب إشراك السكان في مراقبة التلوث وحماية الوديان والمجاري المائية، وتشجيع الجمعيات البيئية على تنفيذ مشاريع صغيرة في الأحياء والقرى، فحين يشارك الجميع في حماية الماء تصبح التنمية المستدامة حقيقة لا شعارًا
وهكذا نرى أن مستقبل المغرب المائي يمر عبر الزراعة الذكية، وإعادة استعمال المياه، وحماية الأنهار، والتخزين المرن، وتغيير سلوك المجتمع، فكل هذه الاستراتيجيات مترابطة تكمل بعضها البعض وتشكل منظومة واحدة هدفها حماية كل قطرة ماء، لأن الماء ليس مجرد مورد طبيعي بل هو حياة أمة، وضمان استقرارها وكرامتها ومستقبل أجيالها القادمة.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News



