
حين يُستدعى التعليم لمحاكمة الكرة…أو حين ننسى أن الوطن لا يُبنى بساق واحدة
- بقلم: حسن كرياط- المغرب
في خضم النقاشات التي تعجّ بها الفضاءات الرقمية بالمغرب مع اقتراب موعد كأس إفريقيا للأمم 2025، عاد إلى السطح ذلك الجدل القديم الذي يتجدد مع كل مناسبة رياضية: هل الأَولى أن نصرف على المدارس أم على الملاعب؟ سؤال يتكرّر كلما اقتربت لحظة الفرح الجماعي، وكأن التعليم لا يُستحق النقاش إلا حين يعلو صوت الهتاف في المدرجات. غير أن هذا السؤال البسيط في ظاهره يخفي خلفه رؤية قاصرة للتنمية، تنسى أن الوطن لا يُبنى بساق واحدة، وأن نهضته تحتاج إلى فكرٍ يخطّط وعضلٍ يتحرك.
منذ فجر الاستقلال، كان التعليم في المغرب حجر الزاوية في بناء الدولة الحديثة، ومختبراً لرهاناتها الكبرى في التنمية والمواطنة. لقد ظلّ هذا القطاع يتصدر السياسات العمومية حتى في أشد الفترات صعوبة، زمن الحروب والأزمات الاقتصادية، دون أن يفقد موقعه في سلم الأولويات الوطنية. لذلك، يبدو من المبالغة الادعاء بأن النقاش حول التعليم بدأ مع الجيل الرقمي أو أن النخب المغربية لم تُدرك أهميته إلا مؤخراً. فالتعليم ظلّ حاضراً في كل إصلاح دستوري وفي كل خطاب ملكي، بل كان سبباً مباشراً في تحولات اجتماعية كبرى مثل انتفاضة مارس 1965 التي انطلقت شرارتها من قضايا تربوية. وما المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي اليوم إلا امتداد لذلك الوعي المبكر بأهمية المدرسة المغربية.
لكن المعضلة ليست في الاعتراف بقيمة التعليم، بل في الطريقة التي يُطرح بها النقاش، حيث يُقدَّم أحياناً كخصمٍ للرياضة وكأن الملاعب تُبنى من ميزانية الفصول الدراسية. والحقيقة أن الرياضة ليست نقيضاً للتعليم، بل شريكة له في صناعة الإنسان. فالبنية التحتية الرياضية لا تُقصي المدرسة، كما أن الاستثمار في “الكان” لا يعني التخلي عن التلميذ أو المعلم. على العكس، فحين تُدار الرياضة بعقل، تصبح امتداداً تربوياً لما يتعلمه الإنسان في المدرسة: التعاون، والانضباط، وروح المثابرة، وهي كلها قيم تعليمية بامتياز. من الخطأ إذن أن نحصر التنمية في معادلة ضيقة: إما ملعب وإما مدرسة، لأن الأمم التي تجمع بين الاثنين هي التي تضمن التوازن بين الفكر والجسد، بين المعرفة والفرح.
الأدهى من هذا النقاش هو ما يُفهم ضمناً من بعض الأصوات التي تُشيع أن “العقول المغربية” تحتاج إلى ترميم قبل أن يحق لها أن تفرح أو تناقش. لكن الواقع يكذّب هذه النظرة المتشائمة. فالمغاربة الذين يخوضون اليوم نقاشات عميقة حول التعليم والهوية والحكامة هم أبناء هذه المنظومة نفسها التي يُقال إنها فاشلة. منظومة أنجبت نخباً مفكرة ومبدعة وناقدة لا يمكن الحكم عليها بالفشل المطلق. نعم، هناك اختلالات وإكراهات وإصلاحات مؤجلة، لكن لا يمكن القفز على حقيقة أن المدرسة المغربية كانت ولا تزال مصنعاً للوعي الوطني وفضاءً لتكافؤ الفرص. من هنا، فإن الوعي الذي نراه اليوم ليس وليد الصدفة، بل حصيلة مسار طويل من التراكم الفكري والتربوي.
الوطن المتوازن هو الذي يربط بين الفكر والفرح، بين المدرسة التي تُنير العقول والملعب الذي يُبهج القلوب. كلاهما فضاء لبناء الإنسان في كليّته: أحدهما يعلّمه التفكير، والآخر يعلّمه الحلم. ومن يظن أن الفرح الجماعي يضرّ بالوعي ينسى أن الأمم التي تتقن تنظيم البطولات الكبرى هي نفسها التي تتقن صناعة العقول الكبرى. المطلوب إذن ليس المفاضلة بين التعليم والرياضة، بل بناء رؤية وطنية قادرة على المزاوجة بين الاثنين، لأن تعليمًا يُنتج المعنى، ورياضةً تُنتج الثقة بالنفس، هما وجهان لمشروع مجتمعي واحد.
في النهاية، ليس في الدفاع عن التعليم ما يُغضب، ولا في الاحتفاء بكرة القدم ما يُعيب، لكن في اختزال أحدهما في نقيض الآخر تضليل فكري واختزال للوطن في نصفه فقط. لقد آن الأوان أن نرتقي بالنقاش من منطق المفاضلة إلى منطق التكامل، وأن ندرك أن العقل والعضل جناحان لوطنٍ واحد. فليست المدارس ضد الملاعب، بل كلاهما في صف الوطن، والمغرب الذي يُشيّد ملاعبه استعداداً للكان، هو نفسه المغرب الذي يُشيّد عقول أبنائه استعداداً للمستقبل.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News