الرأيالمغرب اليوم

المسيرة الخضراء…التلميذ الذي كنته..

أستعير هذا العنوان من الصديق العزيز والصحفي الرزين مصطفى العراقي، صاحب كتاب «الطفل الذي كنته»، لأحكي لكم:

كان يا ما كان، في زمن بعيد، تلميذ كغيره من أبناء جيله، التحق كعادته في الصباح الباكر بقاعة الدرس، حيث كانت الحصة الأولى تنطلق عند السابعة والنصف، في مدرسته التي سمتها وزارة التربية الوطنية «المصلى»، وسماها أهل وزان «الحدادين».

خاطب المعلم التلميذ بالفرنسية قائلًا: «قم إلى السبورة واكتب تاريخ اليوم.»

كان هذا المعلم ـ غير المتعاقد ـ قد كسب هيبته من جديته وكفاءته، لا من قوة عضلاته ولا من كثافة شاربه. كانت لكنته البدوية وابتسامته المستمرة وصوته الصادح تجعل القسم هادئًا كأنه في قدّاسٍ ديني.

أمسك التلميذ قطعة الطباشير البيضاء بين أنامله المرتعشة – لا يدري إن كان من هيبة المعلم أم من برودة الصباح الخريفي – وعلى السبورة الخشبية السوداء ذات الأضلاع الثلاثة، كتب بالفرنسية:

‏Jeudi 16 octobre 1975

ثم عاد إلى مقعده سعيدًا، كأنه تحرر من ذلك الحرف اللعين E الذي كان يتسلل إلى كتابته فيعرّضه لعقوبة “قرص الأذن”، وهي أرحم من تنمّر زملائه.

من كان يعلم أن هذا اليوم سيحفر في ذاكرة الوطن، وأن المملكة ستضمّد جراح جغرافيتها وتسترجع العيون والسمارة وبوجدور والداخلة؟

في بداية الحصة المسائية، دخل مدير المدرسة بطربوشه الوطني وهدوئه المعتاد، وطاف على الأقسام وأمر التلاميذ بالبقاء بعد نهاية الدروس. بدأ الهمس، وقلّ الانضباط، وكثرت الزيارات بين المعلمين والمعلمات، وارتفع الترقب.

وما إن دقّ الجرس حتى تجمّع الجميع في ساحة المدرسة، وسار التلاميذ مثنًى مثنًى إلى أن وصلوا أمام أهم إدارة عمومية بالمدينة، مكتوب عليها: «قصر البلدية»، القريبة من مدرسة الحدادين.

كانت سيارات المغرب الأحمر مركونة إلى جانب الطريق، والخواص بالداخل، أما العامة والأطفال فبقوا في الخارج. ومع حلول الظلام، انطلق النشيد الوطني، فردّده التلميذ بصوتٍ مرتجف:

منبت الأحرار، مشرق الأنوار…

فيما كان رجال الأمن والقوات المساعدة يؤدّون التحية العسكرية بانضباطٍ مهيب.

ساد صمتٌ رهيب داخل قصر البلدية ومحيطه، إلا من الصوت الجوهري للملك الحسن الثاني، المنبعث من التلفاز. حينها فقط، فهم التلميذ سبب وجوده هناك.

وما هي إلا لحظات حتى انفجرت القاعة الكبرى بمن فيها إلى الشارع، ومعها تفجّرت الحماسة، ورغبة الجهاد، وخبر المسيرة لتحرير الصحراء المغربية من الاستعمار الإسباني.

في تلك الليلة، جلس التلميذ في منزله قرب والده سي عبد العزيز – رحمه الله – الذي فرض “حظر تجول” داخل البيت حتى نهاية نشرة الأخبار. ومن المذياع، سمع للمرة الأولى الكلمة التي سترافقه طوال حياته: المسيرة الخضراء.

تساءل الطفل في داخله: ما هذا؟ إن كان يفهم اللون الأخضر ويميّزه عن غيره، فكيف له أن يستوعب “المسيرة” ككلمة وكفعل نضالي؟

منذ اليوم الموالي، تغيّر كل شيء.

لم يعد القسم قسمًا، ولا المنزل منزلًا، ولا الشارع شارعًا، ولا اللعب لعبًا. صار الأطفال يتجمعون في الحي، يحملون الرايات الحمراء ويجوبون الأحياء الأخرى. في القسم، علم التلميذ أن معلمه سي أحمد الرياني تطوّع للمشاركة في المسيرة.

في المقاهي والحمّامات، كان راديو المدينة يذيع الشائعات: «الإسبان يهددون بإبادة المشاركين… إنها الحرب!»

كلما اقترب التاريخ، ازداد الحزن على المعلم الذي “سيموت في الصحراء”. كان التلاميذ يراقبونه في صمت، يتأملون صوته ونبراته، وكأنهم يودعونه.

وفي الشوارع، كان رجال الأمن يوقفون الشاحنات العابرة للمدينة ويضعون عليها بالطلاء الأخضر حرف N ورقمًا يدل على شمال المملكة.

وفي ساحة الاستقلال، فُتح مكتب لتسجيل المتطوعين. جلس التلميذ فوق محفظته يتأمل طوابير الرجال والنساء المقبلين على التسجيل، وفي ذهنه تتطاير الأسئلة:

لماذا هذا الإقبال؟ ألا يخشون الموت؟ أليس لهم أبناء في حاجة إليهم؟

وجاء يوم الانطلاق… يوم لا يُوصف.

تداخلت الزغاريد بالبكاء، والفرح بالعويل، واهتزت الساحة المقابلة لقصر البلدية بالأغاني الوطنية، وأشهرها:

«العيون عينيا، والساقية الحمرا ليا، والواد وادي»

وانطلق الموكب في نظامٍ وانتظام.

استمرت جولات الأطفال في الأحياء بالأعلام الوطنية، ولم يشغل التلميذ سوى سؤالٍ واحد:

هل سيعود المعلم؟

وجاء يوم العودة. وفي الساحة نفسها، عاد من عاد.

دخل المعلم إلى القسم بلحيته الطويلة وشاربه الكثيف، وتناول دفتره، واستأنف درس الرياضيات الذي كان يجد فيه متعة خاصة.

سنوات طويلة بعد ذلك، كبر التلميذ وعلم أن المتطوعين أسّسوا جمعية للمسيرة الخضراء للحفاظ على ذكرياتهم، فطلبوا من الجماعة الحضرية مكتبًا يجتمعون فيه. وبعد جهدٍ طويل، مُنحوا مكتبًا مقابل دار الشباب… كان في الأصل مرحاضًا عموميًا!

فيا ليتهم ما فعلوا.

حينها فقط، فهم التلميذ لماذا لم تعد البلدية “قصرًا” كما كانت منذ أول جماعة سنة 1963.

*هذا المقال نشرته في كتابي “مقالات في السياسة والمجتمع”

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى