الرأيالرياضة

حين يتحول الاحتجاج إلى عبث ..من يدعو إلى مقاطعة “الكان ” إنما يقاطع وطنه

  • بقلم حسن كرياط//

تتصاعد في الآونة الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي موجة غريبة من الدعوات، تتخذ شكل صور وفيديوهات ومنشورات، تحثّ المغاربة على مقاطعة “الكان” والملاعب، في خطوة تثير الدهشة أكثر مما تثير الغضب. وبغض النظر عن الجهة أو الجهات التي تقف وراء هذه الحملة، ومدى انسجامها مع هستيريا الإعلام الجزائري المليء بالمفارقات، فإن جوهر القضية لا يكمن في “من أطلق الدعوة”، بل في “المنطق المشوش واللاواقعي” الذي يحركها ويغذيها.

فبطولات كرة القدم الكبرى لم تعد مجرد منافسات رياضية أو سباقاً نحو الألقاب، بل أصبحت تظاهرات اقتصادية ضخمة ذات أثر استراتيجي عميق. فخلف كل مباراة تُلعب فوق أرضية معشوشبة، هناك دينامية اقتصادية متكاملة تمس قطاعات حيوية كالنقل، والسياحة، والصحة، والخدمات، والتأهيل الحضري، والبنية التحتية.

كما أن هذه التظاهرات لا تقتصر على مردودها المباشر، بل تخلق ما يسمى بـ”الأثر الناعم”، وهو ذلك الزخم الإيجابي الممتد الذي يبدأ قبل الحدث بسنوات ويستمر بعدها طويلاً، إذا أحسن استثماره وتوظيفه في مسار التنمية المستدامة. وقد أثبتت التجارب أن بلداناً كثيرة استطاعت أن تغيّر وجهها الحضري والاقتصادي بفضل تنظيم تظاهرة رياضية كبرى، لتتحول مدنها من فضاءات هامشية إلى أقطاب سياحية واقتصادية عالمية.

من هذا المنطلق، فإن تنظيم المغرب لكأس الأمم الإفريقية 2025 ليس صدفة ولا مجاملة من الاتحاد الإفريقي لكرة القدم، بل هو تتويج طبيعي لمسار طويل من التخطيط والإنجاز، واعتراف صريح بنجاح سياساتنا العمومية في جعل البنية التحتية الرياضية رافعة للتنمية ومجالاً للتنافس الدولي. فبلادنا اليوم، بفضل الرؤية الملكية المتبصّرة، تتوفر على ملاعب حديثة، ومطارات متطورة، ومرافق سياحية وصحية ذات معايير عالمية، وتحتل مراتب متقدمة في مجالات التهيئة الحضرية والاستدامة البيئية، بما يجعلها نموذجاً قارياً يحتذى به. وهذه الإنجازات ليست مجرد هياكل مادية من إسمنت وحديد، بل تعبير عن رؤية وطنية طموحة تسعى إلى إشعاع المغرب قارياً ودولياً، وإلى تحويل الرياضة إلى بوابة حقيقية للتنمية الشاملة.

وسط هذا السياق الإيجابي، تبدو الدعوة إلى مقاطعة “الكان” فعلاً عبثياً يفتقر إلى الحد الأدنى من الوعي الوطني. فحتى إن سلّمنا بوجود إخفاقات في بعض الأوراش التنموية أو الإصلاحية، فإن المنطق يقتضي أن نثمّن ما تحقق من نجاحات لا أن نعمل على تقويضها. إذ من غير المعقول أن نحارب مظاهر التقدم القليلة التي تمثل وجهاً مشرقاً لصورة المغرب، بحجة الرفض أو الاحتجاج. فمثل هذه الدعوات لا تعكس وعياً سياسياً أو اجتماعياً ناضجاً، بل تنمّ عن نزعة انفعالية تهدم أكثر مما تبني، وتسيء إلى صورة البلاد التي عملنا جميعاً على ترسيخها في الداخل والخارج.

إن مقاطعة حدث وطني بهذا الحجم ليست مجرد موقف رمزي، بل هي في جوهرها إساءة لصورة المغرب أمام العالم، وإضعاف للثقة التي اكتسبها بجهد السنين. فالاحتجاج، حين ينفصل عن الوعي، يتحول إلى انفعال عشوائي لا ينتج سوى الفوضى، بينما الوعي الحقيقي هو أن نفرّق بين من يعارض من أجل البناء، ومن يعارض بدافع الهدم أو التشويش. والمغاربة، عبر تاريخهم، عرفوا دائماً كيف يحافظون على وحدتهم وكرامتهم، وكيف يعبّرون عن آرائهم دون أن يسيئوا إلى وطنهم أو إلى رموزه.

إن من يدعو إلى مقاطعة “الكان” لا يقاطع مباراة فحسب، بل يقاطع بلده، ويضع نفسه خارج السياق الوطني الذي يسير بخطى ثابتة نحو البناء والتقدم. فالملاعب ليست فقط فضاءات للفرجة، بل رموز للهوية والانتماء، ومساحات تُترجم فيها روح الوطنية الحقيقية.

في النهاية، ليست الوطنية شعاراً يُرفع عند الحاجة، بل سلوكاً ومسؤولية تُمارس في الميدان. وتنظيم المغرب لكأس الأمم الإفريقية هو اختبار جديد لقدرتنا على تحويل الفرجة إلى تنمية، والحدث إلى فرصة للنهوض الجماعي. ومن أراد أن يحتج، فليحتج بوعي ومسؤولية… لا بعبث وانفعال.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى