العالم اليوم

صراع داخلي وضغوط خارجية تكشف مأزق جبهة البوليساريو

  • بقلم: حسن كرياط //

يشكل قرار جبهة البوليساريو بتأجيل مؤتمرها الشعبي العام، الذي كان من المزمع عقده قبل نهاية السنة الجارية، محطة كاشفة لعمق المأزق الذي تعيشه القيادة الانفصالية داخل مخيمات تندوف. فالقرار الذي حاولت الجبهة تبريره بـ“أسباب تنظيمية ولوجستية” يخفي وراءه أزمة سياسية وأمنية خانقة، تعكس هشاشة البنية الداخلية للجبهة وتفاقم حالة الانقسام بين صفوفها، في وقت فقدت فيه القيادة السيطرة على المشهد العام، سياسياً وتنظيمياً وأمنياً.

لقد تآكلت شرعية البوليساريو بشكل متسارع خلال السنوات الأخيرة، بعدما بدأت الأجيال الجديدة داخل المخيمات ترفع أصواتها ضد القيادة المتكلسة التي لم تعد قادرة على تقديم أي أفق واقعي أو سياسي. فالشباب الذين عاشوا عقوداً من التهميش والعزلة باتوا يرون أن المشروع الذي بُني على وعود التحرير تحول إلى وسيلة للريع والسلطة، فيما ظلت القيادات القديمة تتبادل المناصب والامتيازات. من قلب هذه الأجواء برزت حركات إصلاحية مثل “تيار التغيير”، الذي اتخذ من العرائض العلنية والمطالب بالمحاسبة والديمقراطية الداخلية وسيلة لمواجهة القيادة، مما زاد من توتر الأوضاع داخل المخيمات.

التقارير الأمنية التي رفعت إلى قيادة الجبهة تحدثت صراحة عن احتمالات انفلات أمني خلال المؤتمر، واحتمال تحوّله إلى ساحة مواجهة بين المؤيدين والمعارضين. بعض المصادر لم تستبعد وقوع أعمال تخريب أو محاولات لاستهداف ضيوف وصحفيين أجانب، وهو ما جعل القيادة تعي أن عقد المؤتمر في مثل هذا المناخ سيكون مغامرة خطيرة قد تكشف أمام العالم مدى هشاشة الوضع الداخلي.

تأجيل المؤتمر، إذن، لم يكن قراراً إدارياً، بل خطوة احترازية نابعة من الخوف. فالجبهة اليوم تجد نفسها بين مطرقة الانقسام الداخلي وسندان المتغيرات الخارجية. فهي تدرك أن أي فشل في إدارة هذا الاستحقاق سيزيد من تصدّعها الداخلي ويضعف صورتها أمام حلفائها، خصوصاً في ظل تراجع نفوذ القيادات التاريخية وتنازع مراكز القرار بين الجناحين العسكري والسياسي.

على الصعيد الخارجي، يأتي القرار في سياق انتظار الجبهة لما سيحمله تقرير مجلس الأمن حول قضية الصحراء المغربية، والذي يُتوقع أن يجدد دعم المجتمع الدولي لمقترح الحكم الذاتي الذي قدّمه المغرب سنة 2007 باعتباره حلاً واقعياً وعملياً للنزاع. هذا المعطى يثير قلق القيادة الانفصالية التي تدرك أن الرياح الدبلوماسية تسير عكس اتجاهها، وأن خطاب “تقرير المصير” الذي بنت عليه مشروعها السياسي فقد بريقه أمام المقاربة المغربية القائمة على الواقعية والشرعية الدولية.

تعيش البوليساريو أيضاً حالة تراجع حاد في دعمها الخارجي، خاصة في القارة الإفريقية حيث بدأت عدة دول تسحب اعترافها بالجبهة تباعاً، متأثرة بالدينامية المغربية الواسعة التي جمعت بين الدبلوماسية والتنمية. أما في أوروبا، فقد برز تحول نوعي في مواقف العديد من العواصم التي باتت تنظر بواقعية إلى مبادرة الحكم الذاتي، معتبرة إياها الخيار الوحيد القادر على ضمان الاستقرار الإقليمي، في وقت تتصاعد فيه التهديدات الأمنية في منطقة الساحل والصحراء.

أما الوضع داخل المخيمات، فيوصف اليوم بأنه مأساوي بكل المقاييس. إذ تحولت هذه الفضاءات إلى مناطق مغلقة تسودها المحسوبية والفساد، حيث تسيطر القيادة على المساعدات الإنسانية وتعيد توزيعها وفق الولاءات. الشباب يعيشون في حالة احتقان ويأس، والعديد من التقارير تتحدث عن تصاعد الجريمة والتهريب وتنامي نشاط الشبكات المسلحة. الأمم المتحدة نفسها حذرت من تحول المنطقة إلى بؤرة توتر تهدد أمن شمال إفريقيا، ما يجعل فكرة عقد مؤتمر في مثل هذا السياق شبه مستحيلة.

في العمق، تعاني الجبهة من انفصام واضح بين خطابها السياسي وواقعها الميداني. فهي ما تزال ترفع شعارات “التحرير والمقاومة”، بينما فقدت السيطرة على المخيمات وعلى خطابها الخارجي. في المقابل، نجح المغرب في ترسيخ موقعه كفاعل إقليمي يتمتع بالاستقرار والشرعية، بفضل سياسته الواقعية ومبادراته التنموية في الأقاليم الجنوبية. ومع توالي المواقف الدولية المؤيدة للحكم الذاتي، أصبحت البوليساريو في وضع دفاعي دائم، تحاول كسب الوقت وتأجيل الاستحقاقات الداخلية التي قد تسرّع بانهيارها.

إن قرار التأجيل يكشف عن مأزق مزدوج: من جهة، عجز القيادة عن مواجهة التحديات الداخلية؛ ومن جهة أخرى، انحسار الدعم الدولي الذي كانت تراهن عليه. فالقيادة تجد نفسها اليوم أمام جيل غاضب داخل المخيمات وضغوط خارجية لا ترحم، ما يجعلها تعيش حالة “انتظار متوترة” تراهن فيها على الزمن، رغم أن الزمن لم يعد في صالحها.

المشهد القادم مرشح لمزيد من التصدع داخل الجبهة، مع احتمال توسع “تيار التغيير” وازدياد حدة الغضب الشعبي داخل المخيمات. وفي المقابل، سيواصل المغرب تعزيز موقعه الدبلوماسي والسياسي، مستفيداً من مصداقية مشروعه الوطني ومن فشل خصومه في إنتاج بدائل واقعية.

وصفوة القول، أن تأجيل مؤتمر البوليساريو ليس مجرد تأجيل لحدث تنظيمي، بل تأجيل لموعد الحقيقة. فالحركة التي طالما قدّمت نفسها كرمز للنضال والتحرر تعيش اليوم لحظة انكشاف عميقة، بعدما انقلبت شعاراتها إلى عبء يفضح عجزها عن التكيّف مع التحولات الجارية. إنها لحظة النهاية البطيئة لمشروع فقد مبررات وجوده، في عالم لم يعد يعترف إلا بمنطق الشرعية، والواقعية، والقدرة على صناعة الأمل بدل استثماره في الوهم.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى