
خطاب جلالة الملك كان في صف الدستور والقانون لا في صف الانفعال ..
- بقلم حسن الطالب //
استغرب كثير من المغاربة من غياب أي إشارة في خطاب جلالة الملك محمد السادس أمام البرلمان، مساء الجمعة، إلى ما شهدته المملكة خلال الأيام القليلة الماضية من أحداث مؤلمة، سالت فيها دماء وخُرّبت ممتلكات، واهتز لها وجدان الوطن. تساءل الناس بمرارة: كيف يمكن أن يمر أهم خطاب يُفتتح به الموسم التشريعي دون أن يتناول تلك الوقائع الجسام؟
كان الغالبية ينتظرون أن يتضمن الخطاب رسائل مباشرة أو قرارات عاجلة تعكس التفاعل الفوري مع ما جرى في الشارع المغربي من احتجاجات، غير أن هذا الانتظار كان نابعًا من منطق العاطفة لا من منطق الدولة. فالمؤسسة الملكية، عبر تاريخها الطويل، لم تكن يومًا أسيرة الانفعال ولا أسيرة اللحظة، بل ظلت تزن الأمور بميزان التعقل والتريث، إدراكا منها أن ما يُبنى في لحظة غضب قد يُهدَم في لحظة ندم…
لقد اختار الملك أن يحترم طبيعة الخطاب وسياقه وزمنه، لا أن يُحوّله إلى منبرٍ للتصعيد أو للتصريحات العاطفية. فلو فعل، لكان ذلك خروجًا عن تقاليد الدولة وعن روح الدستور التي تحكم العلاقة بين السلط، ولأعطى إشارة خاطئة إلى الداخل والخارج على حد سواء، مفادها أن المغرب بلدٌ تُدار قراراته تحت ضغط الشارع لا تحت سلطة القانون. وهذا ما لا يليق بدولةٍ اختارت منذ عقود طريق الاستقرار والإصلاح المتدرّج لا طريق الارتجال والانفعال.
لقد أدرك جلالته – بحكم اطلاعه الواسع على تفاصيل ما جرى – أن ما وقع لا يُعالج بردودٍ آنيةٍ ولا بخطاباتٍ انفعاليةٍ تُرضي الغاضبين مؤقتًا، بل بمعالجةٍ هادئةٍ لجذور الخلل، وبإعادة ترتيب البيت الداخلي للمغاربة برويّةٍ وتؤدةٍ لا تُفرّط في الهيبة ولا في الأمن. فالحكمة، كما قال القدماء، هي أن تُبطئ حين يسرع الناس، وأن تتقدّم حين يترددون.
ولو استجاب الملك لمنطق الشارع الغاضب، لوجدت البلاد نفسها في متاهة المشاحنات والجدل العقيم، بين مؤيدٍ ومعارض، بين من يرى في الخطاب انتصارًا للشعب، ومن يراه تصعيدًا على الحكومة، ولكان لذلك صدى سياسي وإعلامي يضر بصورة المغرب واستقراره. إن الدولة، حين تدخل في منطق ردّ الفعل، تفقد بوصلتها وتضيع هيبتها، والملك أراد أن يُجنّب وطنه هذا المسار الخطير.
فالتعقّل في مثل هذه اللحظات ليس ضعفًا، بل قمة القوة. والسكوت المدروس أبلغ من الكلام المتهور، لأن التهدئة المدروسة أحيانا هي أقصر طريق إلى الإصلاح الحقيقي. إن جلالة الملك بتصرّفه ذاك لم يغفل معاناة الشباب، بل وضعها في موضعها الصحيح ضمن رؤيةٍ شاملةٍ تُعالج الأسباب لا المظاهر، وتُعيد للمغاربة الثقة بأن التغيير لا يُفرض بالصوت العالي، بل يُبنى بالصبر والعقل والحكمة.
بعبارة أخرى اختار جلالته أن يُطفئ النار لا أن يُذكيها، وأن يربّي في المغاربة معنى الهدوء في العاصفة، لأن المغرب في حاجةٍ إلى عقلٍ باردٍ أكثر من حاجته إلى حناجرٍ ساخنة.
ما بين الفعل ورد الفعل المنتظر يكتشف خلل في منطق الفعل بينهما وفي فهم طبيعة المؤسسات وأدوارها. فالمغاربة – أو غالبيتهم – ممن صوّتوا على الدستور، لم يقرؤوا منه سطرا واحدا ولم يحفظوا ما يخصهم فيه كمواطنين(بصرف النظر عما يهم اي شخص فيه) ، على الرغم من أن هذا الدستور هو الإطار الأعلى المنظم لشؤون الدولة وضابط للعلاقات بين السلط.
لقد كان واضحاً أن جلالة الملك لم يشأ أن يحيد عن هذا الإطار، لأنه ببساطة أراد أن يقول لشعبه: أنا رئيس الدولة، حامي مؤسساتها وضامن استقرارها، وما دامت إرادتكم قد أقرّت هذا الدستور، فإن التزامي الأول معكم هو أن أكون في صف القانون لا في صف الانفعال.
إن خطاب افتتاح الدورة التشريعية ليس منبراً للعواطف ولا لحسابات اللحظة، بل هو خطاب مؤسساتي موجّه إلى ممثلي الأمة في المقام الأول ، لا إلى العامة في الشوارع أو إلى المنصات الغاضبة. وكأنما جلالته يقول للمغاربة جميعاً: هؤلاء الجالسون أمامي هم أنتم، هم الصورة التي ارتضيتم أن تعبّر عنكم، فأنصتوا إليّ وأنا أخاطبكم من خلالهم والرسالة المبطنة هي «غدًا، حين تذهبون إلى صناديق الاقتراع، كونوا صاحين، يقظين، لا هأئمين ولا متذمرين! صوّتوا لمن ترونه الأجدر بأن يعبّر عنكم، لا لمن يوزّع الابتسامات في الأسواق أو الأظرف في الأزقة… فأنتم حين تقاطعون الانتخابات، أو حين تصوّتون على غير هدى، إنما تحصدون ما زرعتم بأيديكم” !
ومن ثمّ، فإن الخطاب احترم توقيته ومضمونه وأهدافه، فكان متسقا ومنسجما مع ذاته ومع طبيعته القانونية والدستورية. أما من خابت آمالهم لأنهم انتظروا قرارات عقابية أو ردوداً حازمة تُرضي الغضب الشعبي، فإنهم ينظرون إلى الدولة بمنظار الانفعال، لا بمنظار الحكمة والتؤدة. فالعواطف حين تشتد تغشي الأبصار وتمنع عن الناس رؤية ما وراء الموقف من منطق ومسؤولية.
ومع ذلك، لم يخلُ الخطاب من إشارات واضحة وتوجيهات دقيقة للحكومة، تلك الحكومة التي نتفق جميعاً على أنها تعاني أعطابا بنيوية، وهشاشة سياسية، بل وتخترقها مظاهر فساد لا يستطيع رئيسها أن يغطيها حتى “برباطٍ مشدود”، كما يقول المثل. لكن رغم ذلك، فإن اللحظة السياسية الراهنة واحترام النصوص الدستورية يفرضان أن يُدار الغضب الشعبي بعقل بارد، لا بردود انفعالية.
إن الدعوات المطالبة بإقالة الحكومة أو إسقاطها، رغم جاذبيتها اللفظية وقدرتها على تهدئة الشارع الغاضب، ليست سوى وصفة للخراب. فتنفيذها يعني الدخول في دوامة من التعطيل المؤسسي: حكومة تصريف أعمال بلا صلاحيات، مفاوضات شاقة لتشكيل أغلبية جديدة، توقف مشاريع ضخمة سياسية واقتصادية ورياضية، وتعطل قرارات استثمارية دولية ينتظرها المغرب منذ سنوات. إن هروب المستثمرين لا يحدث فقط بفعل الأزمات، بل بخسارة الثقة، وهي أغلى عملة في عالم السياسة والاقتصاد.
ولعل الملوك والعظماء في التاريخ أدركوا أن الحاكم ليس من يُرضي الجماهير لحظة الغضب، بل من يحمي الدولة من نفسها في لحظة الانفعال. فقد قيل: «من تَثبّتَ نجا، ومن عجلَ زلّ»، وقال الحكماء: «ليس الحلم أن لا تغضب، بل أن تضبط نفسك حين تغضب».
لقد شعر الملك، ولا شك، بما يختل في جسد الوطن، وقد أشار غير ما مرة إلى هذا الخلل حين قال إن المغرب يسير أحياناً “بسرعتين مختلفتين”، داعياً إلى إصلاح هذا الازدواج في الرؤية والفعل. غير أن حجم المسؤولية يفرض أن يُحافظ على انتظام المؤسسات واستمرار الدولة، لأن سقوط حكومة في هذا التوقيت الحرج ليس إصلاحاً، بل مغامرة غير محسوبة العواقب..
ولذلك كان الخطاب الملكي وفياً لاختصاصه كضامن للاستمرارية، حارسا لتوازن السلط لا طرفاً فيها. وأما التجاوب المباشر مع نبض الشارع، ومع تطلعات الشباب واحتجاجاتهم، فسيأتي في وقته الطبيعي ضمن خطاب يوجهه جلالته إلى الشعب مباشرة بصيغة: «شعبي العزيز»، لا في خطاب موجه لمؤسسة دستورية محددة. فلكل مقام مقال، ولكل سياق لغته، وهذه من سنن الحكم الراشد الذي يميز المغرب عن كثير من التجارب التي اختارت الانفعال بين منطق السوق ومنطق الدولة..
إن ما فعله جلالته ليس تجاهلاً لما يجري، بل حفاظٌ على منطق الدولة في زمنٍ يزداد فيه منطق الانفعال. وقديماً قالوا: «العاقل من يزرع في العاصفة، لا من يصرخ فيها».

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News