الثقافة

العين الأخرى: البطولة…شظية عابرة

  • محمد بكريم //

“معركة تلو الأخرى” – بول توماس أندرسون

كل نص نقدي، حول فيلم، يتضمن – من المفروض- ثلاثة عناصر: تقديم وتحليل وتقويم. وعادة ما يتم ذلك على أساس احترام نفس الترتيب.

وبما ان ذلك ليس قانونا فقد ارتأيت أن أبدا مقالي هذا حول فيلم “معركة تلو الأخرى” لبول توماس أندرسون من العنصر الثالث، بنوع من التقويم الانطباعي إن صح التعبير، لأقول هكذا للتو بأننا لسنا امام أفضل أفلامه. نعم، إنه فيلم قوي، جميل، فرجوي بالطبع، سيناريو دسم، وكاست (ممثلين) من الدرجة العليا…بشكل ما يعيد انتاج علامته المميزة، أي يحضر الموضوع – أمريكا كأفق للتأمل- ولكن من وجهة نظر سينمائية أولا. الفيلم الجديد ربما يستحق ان يحتل المرتبة الثالثة في فيلموغرافية المخرج.

ورغم أن البعض، بعد حماس المشاهدة الأولى، يضعه في موقع متقدم في لائحة المتسابقين نحو الاوسكار…فلا أظن انه من وجهة نظر سينيفيلية هادئة سيتبوأ موقعا أفضل من “المعلم” أو “سيكون هناك دماء” بل و “الخيط الشبح”. العلامات البارزة في مسار اندرسون.

سينما الإخراج، سينما الموضوع واساسا أيضا سينما الممثلين. ومن شأن “معركة تلو الأخرى” بصدد هذه النقطة أن يرضي مختلف الأذواق لتواجد ثلاثي من النجوم سأسردهم حسب تصوري لنجاحهم في هذه التجربة المثيرة التي تطلبت من البعض منهم استثمارا جسديا وذهنيا (ونفسيا) كبيرا.

يبدو لي أن شين بين في دور العقيد ستيف حقق حضورا قويا في اداءه لدور شخصية محورية، الفاعل المعاكس “حسب نظرية المربع السيميائي. قال دانزيل واشنطن ذات مرة بأن “دور الشرير من أسهل الأدوار”. ربما لخطيته وشفافيته. ولكن شين بين هنا أدى دور “شرير” ولكن مركب دراميا بشكل شديد التعقيد لطبيعة شخصيته المعقدة بدوافع غريزية جنسية و”ايديولوجية” وحاضرة بشكل متطور يسمح باكتشاف درجات هذا التعقيد.

في المرتبة الثانية من أداء الرجال بنيشيو ديل التورو، دور سرجيو. دور ثانوي “كفاعل مساعد” ولكن بحضور محوري في تطور الحكاية والشخصية الرئيسية. هدوء وتوازن في خضم صخب انفلات الامور أمام العناصر الثورية وفقدان بوب (دي كابريو) لبوصلته (ضعف الذاكرة) وسيساهم سرجيو في انقاذ الموقف عند الحصار. ناطقا بجملة بليغة “كل هذا من أجل كلمة مرور”!

في المرتبة الموالية ليوناردو دي كابريو في دور بوب، الشخصية المحورية والرئيسية بعد اختفاء زوجته. ربما أداءه ـاثر بضغط الدور المتواجد بين شخصيتين نسائيتين قويتين الزوجة / الأم والبنت. في كلتا الحالتين نجده دوما تابع، يجري وراءهن.

عود على بدء. لنذكر بالموضوع. بشكل مركز ينطلق الفيلم في أواخر ثمانينيات القرن الماضي. زمن سنوات الرصاص بالمفهوم الإيطالي للمصطلح بمعنى أن الكلمة المهمة في هذه التركيبة اللغوية هي “رصاص”.

وسيحضر خيار العنف المسلح مع تقديم مجموعة “فرنش 75″، وهي منظمة يسارية راديكالية يقودها بوب كالاهون (ليوناردو دي كابريو) ورفيقته برفيديا بيفرهيلز (تيانا تايلور)، تنفذ الجماعة عمليات جريئة: اقتحام مراكز احتجاز المهاجرين في كاليفورنيا، وتعطيل مقار حكومية وبنوك، واستهداف شبكات الكهرباء.

في خضم هذا المد الثوري ستزداد طفلة عند الثنائي بوب / برفيديا. وسيبرز ضابط مكافحة الشغب في شخص ستيف (شين بين).

شبكة الشخصيات هذه تسمح لي بطرح تصور ثلاثي للتطور الدرامي للفيلم.

هكذا سنجد فصل متمحور حول شخصية برفيديا المقابلة لمرحلة الحركة والدينامية النضالية. وهي بمثابة الجزء الأول من الفيلم وسينتهي مع اعتقال برفيديا واعترافها ثم لجوئها الى مكان مجهول (ربما كوبا ربما الجزائر، والجزائر حاضرة رمزيا في الفيلم في مشهد آخر سأعود اليه).

الفصل الثاني متمحور حول شخصية بوب، ليس المناضل المختص في المتفجرات ولكن الأب الذي سينشغل بالبحث عن ابنته. بعد مرحلة المد، هنا مرحلة الجزر. البطولة ستتورى ألى الخلف. يلجأ اندرسون الى التاريخ ويستبقي شظاياه ومنها بوب.

البطولة شظية عابرة. وفي مشهد سينيفيلي بليغ الدلالة نشاهد بوب في بيته المعزول، المتخفي وهو في حالة من الترهل وهو يتابع فيلم “معركة الجزائر” لجيل بونتكورفو. والفيلم سبق للبنتاجون ان عرضه على فرق القوات الخاصة التي كانت تحارب في العراق. ويحضر هذا الفيلم التاريخي (من أحسن مائة فيلم في تاريخ السينما) في فيلم اندرسون في لقطتين سريعتين. الأولى تعريفية (نشاهد عنوان الفيلم) والثانية موحية جدا حيث نشاهد لحظة قرار جبهة التحرير بمحاربة حثالة المجتمع (رويشد في دور سكير) …

الفصل الثالث سيتمحور حول شخصية الفتاة “ويلا” (أداء رائع لشيز انفينيتي) البنت المفقودة والتي ستقود الفيلم الى أحد أجمل مشاهد المتابعة على الطريق حيث تتلو السينما كل قدراتها الإبداعية.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى