الرأيالمجتمع

وقع الحافر على الحافر: الدعم المالي المباشر ودخول مدرسي مرتقب بطعم الإرتياح والإمتعاض

  • بقلم امحمد القاضي * //

لقي القرار الحكومي الأخير لصرف مبلغ مالي إضافي عند كل دخول مدرسي للأسر وإلغاء مبادرة “مليون محفظة” العينية إرتياحا لدى البعض وإمتعاضا لذى البعض الآخر.

يندرج القرار في إطار العمل على الرفع من مستوى الخدمات التي يقدمها نظام الدعم الإجتماعي المباشر، وذلك تعزيزا لترشيد وعقلنة النفقات المالية العمومية عن طريق تجميع مختلف برامج الدعم التي تروم تحقيق نفس الأهداف.

يتعلق الأمر بصرف مبلغ إضافي خلال كل شهر شتنبر للأسر المدعمة ذوي أطفال متمدرسين بالمؤسسات العمومية في حدود ستة أطفال، وحدد المبلغ في 200 درهم بالنسبة لسلكي الإبتدائي والإعدادي و300 درهم للثانوي التأهيلي دفعة واحدة.

وإذ سيساعد التوجه الجديد الأسر في التخفيف من تكاليف وأعباء الدخول المدرسي، ويعطي الحرية والمسؤولية لأولياء الأمور للتبضع لذى الكتبيين الصغار المحليين مما قد يخلق رواجا موسميا بالأحياء والأسواق المحلية، ويقطع الطريق على إستفادة شركات كبرى محدودة من صفقات المليون محفظة الدسمة. إلا أنه من الأرجح أن يخلق الوضع الجديد إرتباكا وتماطلا خلال الدخول المدرسي المقبل عند ضرورة إقتناء اللوازم المدرسية قبل إنطلاق الدروس.

العملية ستوفر على الوزارة والجهات المعنية إجراءات عروض المناقصة وتخفف التعقيدات الإدارية، وإقتصاد مبالغ مهمة؛ وستعزز فلسفلة الحماية الإجتماعية التي إنخرطت الحكومة في تنزيل أقساطها وتحريرها. وسيتم إلقاء التدبير المالي على عاتق الأسر في ظل غلاء فاحش متزايد.

وفي المقابل، التوجه الجديد يعتبر كذلك حلقة من سلسلة التخلي التدريجي للحكومات المتعاقبة عن الخدمات العمومية الأساسية كالتعليم والصحة في أفق خوصصة القطاعات الحساسة ذات الطابع الإجتماعي، مما قد يوسع الفوارق الإجتماعية ويشكل خطرا على مستقبل تماسك المجتمع المغربي.

في نظري، إجبارية ومجانية التعليم الأساسي لغاية نهاية السلك الإعدادي على الأقل، ولما لا الثانوي، واجب ومسؤولية رسمية. لأن العملية محطة أساسية ومهمة في تكوين المواطن المغربي على القيم الإنسانية، والمواطنة، والإحترام، وإكتساب سلوكيات مدنية، والشعور بالمسؤولية، وبناء الثقة في المؤسسات، والوعي الجماعي بالحقوق والواجبات وحدود الحرية، والإعتزاز بتاريخ البلد والموروث الثقافي المشترك للحفاظ على المكتسبات والإفتخار بالإنتماء لوطن متعدد ومتنوع. إضافة لتنمية قدرات المتعلمين الذاتية لبناء إنسان قادر على التضحية ومواجهة التحديات من أجل النماء والعيش المشترك، وتقدير دوره كفرد منتج ومساهم في تنمية مجتمعه.

مهما كلفت مجانية التعليم الأساسي فهي ربح للوطن، وليست تبديد للمال العام. وهناك طرق عديدة مبتكرة لتمويل تربية الناشئة والرقي بمجتمعنا. ولنا عبرة في مواطني بعض الدول الأجنبية، خاصة الأسيوية الحديثة الطفرة، التي أحسنت تربية مواطنيها وأصبحت قدوة في إحترام النظام العام وتقديس العمل والمساهمة في تنمية البلد. وما الرداءة والتفاهة والفساد الأخلاقي الذي نشتكي منه إلا جزء في تفكك منشآت التنشئة المجتمعية، التي تعتبر الأسرة والمدرسة عمادها.

الحجاج المغاربة العائون من موسم الحج، عادة ما يشيدون بأخلاق وتسامح وإنضباط الحجاج القادمين من جنوب آسيا، وخاصة أندونيسيا. بالمقابل يغضبهم تهور وتعامل وسلوكيات جل حجاج البلدان العربية ومن بينهم المغاربة، الذين يتزاحمون بالمطار، ويتهافتون على تسليم أكل السبيل، وغيرها من الممارسات المشينة. السر بكل بساطة في حسن التربية على القيم والنضج الأخلاقي وتقفي القدوة وسمو المعاملات الإنسانية المكتسبة داخل المدارس العمومية، والأسر والمؤسسات الأخرى.

مجانية التعليم الأساسي تتم عن طريق توفير اللوازم المدرسية والوسائل التعليمية والبنية التحتية، والعناية بالأسرة التعليمية، وإجبار الأسر على إرسال أبنائهم لصفوف الدراسة. هناك تخوف أن لا تقوم الإعانة المادية مقام الدعم العيني بالدفاتر والمطبوعات وترفع الجهات الوصية يدها بشكل كلي على القطاع.

للإشارة، يلاحظ إقفال جل المدارس الإبتدائية بالحواضر أبوابها، بعد أن توجه أغلب التلاميذ للمدارس الخاصة إستكمالا للتعليم الأولي الذي لم تستطع الدولة تعميمه بشكل شامل، مما ترك مآل الأسر تحت رحمة جشع أرباب المؤسسات الخاصة. ومن المرتقب أن يتم تفويت هذه البنايات الفارغة للخواص لإنجاز مشاريع مربحة.

هذا زمن التجارة بالقيم والتلاعب بتربية وتكوين الأجيال، ومستقبل البلد، ولا غرابة إن أصبحنا نحصد تمار الرداءة على جل الأصعدة. وما تعنت تعامل الجهات الوصية مع مطالب الشغيلة التعليمية خلال أطول إضراب في التاريخ يعرفه القطاع السنة الدراسية الماضية، إلا عربون على سحب الإهتمام الحكومي عن القطاعات “الغير مدرة للدخل المادي” الآني، والأقل جادبية للإستثمار، رغم حساسيتها المعنوية ومحوريتها في تكوين الأجيال على القيم النبيلة لبناء الإنسان المغربي المحصن على المدى البعيد.

ونستحضر هنا فضاعة الوضع بتصريح أحد وزراء التعليم بالحكومة السابقة حين صرح بما معناه: ‘ اللي بغا يقري أولادو، إضرب إيدو الجيبو’. حيث يلخص التصريح نية تملص المسؤولين من دعم الخدمات العمومية الموجهة لعموم المواطنين.

ووفق البيانات الإحصائية الرسمية، فإن 334.664 ألف تلميذ وتلميذة غادروا فصول الدراسة سنة 2023، بين الإبتدائي والثانوي دون إستكمال دراستهم. رقم مقلق يعكس عدم قدرة الكثير من المتعلمين مواصلة دراستهم خاصة بعد الإنتقال من سلك لآخر، ويظهر بجلاء أن ما تعبئه الوزارة للحد من التسرب والهدر المدرسي غير كاف. ومن بين الأسباب يمكن الوقوف على إضطرار بعض الأسر الفقيرة الإستعانة بأبنائهم في مواجهة موجة الغلاء بدفعهم إلى الإشتغال بذل الذهاب للمدرسة.

بالبوادي والمناطق النائية عامة، كمنطقة أيت عبد الله الجبلية بإقليم تارودانت مثلا، التي تشتغل بها جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله والتي تكلفت بسد الخصاص بالمؤسسات التعليمة بالمركز في السنتين الماضيتين، ومن المرتقب أن تدعم الدخول المقبل، حيث يعتبر الحد من الهدر المدرسي وتحسين مؤشرات التمدرس من أهم وسائل الرقي الإجتماعي وتقليص الفوارق ورفع الوعي وتمكين الناشئة بالمغرب العميق، ومن أبرز إهتمامات المجتمع المدني بمداشر المنطقة.
من المعلوم أن جميع العائلات المعوزة بالمنطقة لم تتوصل بالدعم، رغم أن درجات التفاوت بين الأسر جد ضيقة. كما أن توفر المكتبات لإقتناء الكتب المدرسية شبه منعدمة، إضافة لسقوط الدعم بجيوب أرباب الأسر المغلوبة على أمرها، وسيختلط الحابل بالنابل على الأسر عند التوصل بمبلغ الدعم الشهري والمبلغ المخصص للدخول المدرسي. ويدوب الدعم المدرسي وسط ضغط الحاجيات اليومية وهاجس أولويات الأسر المعيشية فتدخل إقتناء الأدوات في لائحة الإنتظار. علما أن أرباب الأسر هناك تغلب عليهم طابع الأمية وقلة الوعي بأهمية التكوين والتربية في مستقبل الأطفال، والترويج الخاطئ لقلة جدوى التعليم العمومي في ظل تردي الأوضاع التعليمية وإنسداد أفق المتخرجين الشباب وقلة فرص الشغل، وتخلي الدولة بشكل تدريجي على الخدمات العمومية المجانية.

وبناءا على هذه المعطيات، ستواجه الجمعيات الداعمة للدخول المدرسي ضغطا على كاهل ماليتها حين ستضطر إلى توفير جميع المستلزمات المدرسية لكل المتمدرسين لضمان تكافؤ الفرص، عوض الإقتصار على تغطية الخصاص، إيمانا منها بمركزية وقيمة التربية في تكوين الرأسمال البشري لتحقيق الإقلاع الإقتصادي المنشود وبلوغ التنمية المستدامة، والازدهار المطلوب للمجتمعات.

وتجدر الإشارة، أنه رغم معانات التلاميذ بالبوادي، وقساوة المناخ والظروف المعيشية وتواضع تجهيزات المدارس العمومية، وصرامة جل الأساتذة في التنقيط؛ تبقى نتائج المتفوقين منهم مشجعة وتنافس أرقى المدارس الخاصة، خاصة تميز الإناث في نتائج البكالوريا، ومسابقات القراءة، وغيرها.

الإستثمار في العنصر البشري، وبناء المواطن المغربي، وخاصة الجانب التعليمي منه، لن يستقيم إذا خضع لمنطق السوق، وحسابات الربح والخسارة المادية، والتقشف القطاعي، لأنه في آخر المطاف، الوطن هو الرابح الأكبر.

خلاصة القول، المرحلة التي تمر منها الطبقات الشعبية بالبوادي مع غلاء الأسعار، وندرة المياه، وتوالي سنوات الجفاف، مرحلة حرجة، ولن يزيدها تراجع في الخدمات العمومية إلا تعقيدا.

قد تكون خطوة تحرير الدعم المدرسي مهمة ونرجو أن تنتج التجربة نتائج واعدة. لكن نخشى أن نسقط في مقاربة الربح والخسارة، فيقع الحافر على الحافر، ويصبح التقشف تقشفان، تقشف الدولة بحجة ترشيد النفقات، وتقشف الأسر للتوفير من مصروف الدعم المدرسي ويعاني الأستاذ والتلميذ معا من خصاص الأدوات التعليمية.

الملاحظ أن الجهات الوصية تقتصد بشدة من الإنفاق العمومي على القطاعات الحساسة بدعوى “تدبير عقلاني” للموارد للمالية، بينما تغدق بسخاء طائي على مجالات ترفيهية، فيخسر الوطن بناء أبنائه، ويفقد الدعم الإجتماعي روحه.

*رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى