الرأيالمجتمع

وطني من رحم الألم… فلا تقتلوا فينا الحُلم

  • بقلم: حسن كرياط//

في زمنٍ تتصدّع فيه الحقائق وتتآكل فيه المعايير، لم يعد الوطن مجرد مفهوم دستوري أو خارطة تُعلَّق على جدران الصفوف الأولى من العمر، بل بات سؤالًا مؤجَّلًا نطرحه كلما زلّت أقدامنا بين الأمل والخذلان. إنه الكيان الذي نعود إليه جُرحى، خائبين، متعبين، بحثًا عن عناقٍ لا نعرف هل يستقبلنا أم ينكرنا.

كتبتُ “وطني الذي أنجب المستقبل من رحم الألم” لا بوصفه نصًا أدبيًا، بل كنوعٍ من الصراخ الداخلي، كصلاة هامسة في محراب الخيبة. لم أكتب عن الوطن بمداد النوستالجيا، بل بملح الجراح، وبسؤال وجودي: كيف يستمر وطنٌ يتقن أولاده النسيان؟ كيف يتنفس وطنٌ أرهقه التبرير وسرقتْ ملامحه أقنعة المصالح؟

الوطن، في هذا السياق، ليس ما نراه من خلف زجاج السيارات ولا ما نسمعه في الأناشيد الاحتفالية. الوطن هو ما نكتمه حين نسأل عن المعنى ولا نجد جوابًا، هو تلك الحشرجة في الصوت حين نحاول تذكّر البدايات، وتلك الرجفة التي تصيبنا حين نلمح أبناءه وقد بدّلوا جلودهم، وارتدوا أقنعة الخشونة ليُخْفوا هشاشتهم الأصلية.

إنه وطنٌ تبدّدت فيه الألوان، لا لأن الفصول تغيّرت، بل لأن الروح غابت. وطن توقّف فيه الزمن إلا لون أبنائه الذين باعوا البوصلة واشتروا الغنيمة. وطنٌ تشابه فيه الليل والنهار، وسكنه صيفٌ لا يُثمر، وشتاءٌ لا يغسل.

لكن، ومن بين الركام، يولد المعنى. فليس كلّ موتٍ نهاية، ولا كلّ عتمة نذير ظلام. من رحم الألم، يولد المستقبل، لا بوصفه زمناً بيولوجياً لاحقًا، بل كفعل إرادي، كثمرة وعيٍ تشكّلت في لهيب المحنة. في عمق هذا الجرح، تتفتّق زهرة، وفي قلب هذا الخذلان يولد عناد يشبه ضوءاً لا ينام.

الأمل، هنا، ليس زينة لغوية، بل هو فلسفة تُبقي الجسد مستقيماً في مواجهة الانحناء. هو التزام وجودي بأن نرفض الاستسلام، وأن نستمر في الحلم، لا لأن الحلم جميل، بل لأنه ضروري. لا لأننا نملك ضمانات، بل لأننا نملك الإرادة.

علّمتني التجربة أن الوطن لا يُمنح، بل يُنتزع. لا يُصنع بالانتظار، بل باليقظة. أن المواطنة ليست بطاقة تعريف، بل فعل مقاومة ضد التلاشي، ضد النسيان، ضد خيانة الذات.

لذلك، فإن “وطني الذي أنجب المستقبل من رحم الألم” ليس رثاء، بل تأسيس. إنه نداء بأن نحيا الوطن من جديد، لا بوصفه شبحاً نركض خلفه، بل مشروعاً نعيد بناءه من حجارة الذاكرة، ومن وهج الأسئلة.

ويبقى الأمل، ما دام هناك قلب ينبض باسم الوطن.

فلا تقتلوا فينا الحُلم، دعوه يترعرع، لا كترف شعري، بل كضرورة أخلاقية، كفرض جماعي، كفعل مقاومة أخيرة في زمن الغفلة.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى