
وداعا لأفقر رئيس في العالم، ولا مرحبا بأجشع أناس تلوث عالمنا
- بقلم امحمد القاضي//
غادرنا إلى دار البقاء قبل أسبوع في صمت كما عاش في الظل رئيس الأوروغواي الأسبق خوسي موخيكا José Mujica يوم 13 ماي الماضي في عمر يناهز 90 سنة (1935 – 2025) بعد صراع مع مرض عضال ألم به.
العبرة ليست في موت الرئيس، بل في حياة أفقر رئيس وأسخاهم في العالم، و في الإرث اللامادي والإنساني والنمودج الذي ترك وراءه، وهو القائل: “أيها البشر، أدعوكم بالإعتدال في الحياة.” من بين أقوال أخرى عبارة عن حكم.
بدأ إبن المزارع خوسيه الملقب ب “بيبي” حياته كفلاح، يبيع المحصول وخاصة الورد في شوارع العاصمة مونتيفيديو كأغلب سكان البلد. وعندما ساءت الأوضاع الإقتصادية بعد تراجع الطلب العالمي على المنتجات الزراعية وظهور بوادر الفقر على الساكنة، خرج المزارعون للشوارع للإحتجاج وقابلتهم السلطة بالعنف، مما أدى إلى إعتقال العديد من المحتجين.
إنضم خوسيه للحركة اليسارية المسلحة التي تعتمد حرب العصابات توبوماروس Tupamaros مما أدى به إلى الإعتقال والسجن سنة 1971. قضى أزيد من 14 سنة في سجون حكم العسكر الديكتاتوري. إذ عرفت جل بلدان أمريكا اللاثنية أنظمة الجنرات الدكتاتورية قاسية نتيجة الحرب الباردة والتدخل الأجنبي والإنقلابات العسكرية المتتالية بكل من الشيلي والهندوراس والاورغواي وغيرها خاصة في بداية سبعينيات القرن الماضي. وقد أبدعت السينما في توثيق قساوة المرحلة عبر أفلام عالمية أمثال “مفقود” Missing للمخرج كوستا غفراس سنة 1982.
بعد عودة حالة الإنفراج والديمقراطية للبلد في أواسط تمانينيات القرن الماضي تم الإفراج على خوسيه وأغلب المعتقلين، وإختار الإستمرار في النضال عن طريق العمل السياسي والخيار المدني، فخاض الإنتخابات النيابية وفاز بمقعد نيابي سنة 1994، تم بعد ذلك بمقعد في مجلس الشيوخ ليتولى حقيبة وزير الزراعة فيما بعد. في سنة 2010 أنتخب رئيسا للبلد بأغلبية ساحقة. وعرفت فترة حكمه مابين 2010 – 2015، فترة إزدهارا إقتصاديا، وتبوأت الأوروغواي مركزا متميزا في تصنيفات الديمقراطية والإستقرار السياسي والشفافية بين دول أمريكا الجنوبية، حيث إنتخب رئيس إتحاد دول أمريكا الجنوبية. رفض السكن بالقصر الرئاسي وظل في منزل لايتحاز 60م. كما يقول: “أنا إبن التاريخ، نمط حياتي نتيجة جراحي. لقبوني بأفقر رئيس لكني لا أشعر بالفقر، الأفقر هو من يحتاج الكثير ليعيش، فمن يقضي وقته بحثا عن الأمور المادية، لن يجد وقتا ليعيش حرا.” فعلا، الفقر فقر أخلاق ومبادئ.
غادر منصبه طوعا، رافضا التمديد أو الترشح لولاية ثانية. عاش بقية حياته متنقلا عبر سيارة الفوتسفاكن ترجع لسنة 1987 وفي مزرعة صغيرة ضواحي العاصمة مملوكة لزوجته لوسيا توبولانسكي الثائرة ورفيقته في النضال، وعضوة مجلس الشيوخ التي تبرعت بجزء من راتبها لتحفيز مشاريع الشباب والمشاركة في الأعمال الخيرية.
سيرة حياة رجل متواضع من عامة الشعب لرئيس دولة، حافظ على مبادئه وزهده في الحياة حتى لقب بغاندي عصره، ومانديلا أمريكا الجنوبية لتحمله مشاق السجون ونضاله من أجل التغيير. عكس جل رؤساء الدول الذين يرفضون الإفصاح عن راتبهم، تبرع ب 90% من راتبه لفائدة الأعمال الإجتماعية وتوفير السكن للمحرومين، إحتفظ بتقاعد لا يتجاوز 1200 دولار، أي ما يعادل 12.000درهم، يكفيه للعيش حياة بسيطة. لأنه كما يقول: “من يعرف عن نفسه حب المال، عليه أن لا يدخل السياسة.” (الهضرة عليك أ السي…).
ما يهمنا هنا في حياة الرئيس الراحل خوسيه موخيكا هو أسلوب حياة مناضل لم تغير فيه المنصب واللقب والسلطة المبادئ والقيم التي آمن بها. فرغم ان الأوروغواي تبعد عنا بآلاف الأميال، نقتسم معها القيم والتجارب الإنسانية. فإذ نغرف من الأجنبي العبر الإيجابية، رغم توفرها عند القلة بيننا أمثال عبد الله إبراهيم والسي عبد الرحمان اليوسفي، فإن حاضرنا والأحياء بيننا يصعب أن يكرروا تجارب الزهد السياسي.
خوسيه رئيس فوق العادة، في ظروفنا الحالية لن يكرر الزمان أمثاله، يصعب أن تجود ظروف بلدنا بمثله بأي حال من الأحوال ولو من باب التقليد. خوسيه أصبح يسكن في قلوب الناس بروحه بصورة الطمأنينة والسكينة والسلام التي حافظ عليها بعد أن غيبه الموت عنا بجسده.
لا داعية أن أدخل في المقارنات في زمن المتاجرة بالشواهد الجامعية لأنها ستدخل من باب الإطناب، وخاصة لمن يدعي الزهد ويقول لبطنه غرغري أو لا تغرغري، خرج مدلولا من الباب ويقاتل اليوم من أجل أن يعود من النافذة.
ساترك لمخيلاتكم السفر عبر نمادج بشرية تعيش بيننا، ولأحلامكم ترقب الأفضل وتصبحون على خوسيه مغربي لم تلده أمه بعد داخل مجتمع جشع إستهلاكي.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News