الرأيالمغرب اليوم

هذا ما عادت به الشاحنات من المناطق المنكوبة بسبب الزلزال

المصطفى أفقير – ورزازات //

أفرزت كارثة الزلزال التي ضربت يوم الثامن من شتنبر 2023 منطقة الحوز ومناطق أخرى بالمغرب، حسا تضامنيا شاملا لدى المغاربة داخل الوطن وخارجه ، هو الحس التضامني الذي ولَّد فعلا ميدانيا قويا تجلى عبر الإسراع إلى تقديم مساعدات مادية تَمَّ إيصالها إلى المناطق المنكوبة بمختلف الطرق والوسائل.

لقد سخَّر الإعلام، بمختلف ألوانه، منابرَه لنقْل مظاهر هذا الفعل الإنساني النبيل، كما اجتهدت مواقع التواصل الاجتماعي في رصد تجليات هذا العمل التضامني؛ فرأينا الشاحنات والسيارات وغيرها محملة بالمواد الغذائية والأغطية والملابس، ورأينا كيف تم استعراض لحظات توزيع المعونات بشكل أشبه بالاحتفال الاستعراضي في كثير من الأحيان.

حقا لقد توصل أهل أغلب المناطق المنكوبة بالمساعدات التي أوصلتها وسائل النقل، غير أن هذه الأخيرة لم تعد خاوية بعد أن أفرغت حمولاتها، بل إنها كانت محظوظة لأنها عادت محملة بمساعدات وهبات من طينة أخرى.

لقد عادت محملة بقيم إنسانية أصيلة هي الرأسمال الرمزي لسكان البادية والجبل، عادت محملة بسحر الابتسامة المرتسمة على شفاه الأطفال المرعوبين من هول الخطب الجلل، وهم يُقبلون على الحياة في أبسط تجليات عيشها،

عادت محملة بالقناعة والرضى والسكينة التي زينت وجوه النساء العجائز والمترجمة إلى حمدلة وشكر لله تعالى، وحولت باقي الوشم على ظاهر وجوههن إلى ألق وسمو وشموخ،

عادت محملة بإصرار سواعد الرجال والشباب على البقاء لإعادة بناء النفوس قبل بناء الجدران، وهم لا يأبهون إلى ما ألمَّ بأجسادهم من جراح وكسور وكدمات،

عادت وهي محملة بعبق وأريج ما طبخته النساء مجتمعات، بكل الحب والفرح رغم هول المصاب، لِيُقُدِّمْنَ الطعام للضيف قبل الأهل المنكوبة أحواله،

عادت وهي محملة بالفرح الطفولي المجتمع وهو يردد النشيد الوطني، بكل الهفوات الجميلة في نطقهم له، بحماسة وصدق يشعرانك بقشعريرة تسري في سائر جسدك، فتحس كما لو أنك تستمع إلى هذا النشيد لأول مرة،

عادت وهي محملة بروح عجوز فقدت كل شيء، الأهل والبيت والماشية…، لكنها لم تفقد شيمة ورثتها منذ أمد وخبأتها في صرة على صدرها، فأصرت أن ترسل للشخص الذي حاورها هدية هي قليل من الزعفران، هو ما تبقى لديها وما تملكه،

عادت وهي محملة بمذاق كأس شاي أعده رجل منكوب، فقد مقهى صغيرة هي كل مصدر رزقه، وذلك حين أخرج ما تبقى من متاعه القليل إلى قارعة الطريق، ليكرم الزائرين وعابري السبيل بحلاوة كأس شاي، لعلها تزيل مرارة الأمر الجلل،

عادت وهي محملة بقيم التضامن بين المنكوبين أنفسهم في تآزرهم وتكاتفهم، إذ لم نسمع عن أحد تُرك جانبا دون مساعدة في اللحظات الأولى من الكارثة، حتى قبل وصول أولى أشكال العون والمساعدة،

عادت وهي محملة بغرابة القناعة التي تلبست هؤلاء القرويين وسكنت أرواحهم مثل جني عنيد، وهم يؤكدون أنهم لا يحتاجون إلى شيء ما داموا أحياء،

عادت وهي محملة بإصرار شباب على منع قنوات تلفزية أجنبية من توجيه كاميراتهم نحو وجوه الساكنة المنكوبة، حفاظا على كرامة هي كل ما تبقى وأهم ما ينبغي أن يتبقى حين نفقد كل شيء،

عادت وهي محملة بعبارات تنوء بحملها الجبال، هي لأطفال قطعوا وعودا على أنفسهم بتحقيق أمنيات آبائهم وأمهاتهم الذين طمرتهم الحجارة والأتربة تحت بيوتهم إلى الأبد، وهي أمنيات ذات علاقة بالدراسة والكد من أجل بناء الذات رغم كل شيء،

فكيف ستحمل هذه الشاحنات والحافلات والسيارات والطائرات هذه الجبال المتراكمة من العطايا والهدايا والهبات، وكيف يستطيع العائدون تخزينها في بيوتهم الصغيرة داخل المدن،

ما أعظم ما جادت به القرى والجبال زمن الكارثة، وما أعظم هذا الرأسمال الرمزي والروحي الذي لا يفنى.

فهنيئا لمن اختلس قليلا من هذا الزاد الروحي والقيمي، وهنيئا لمن يعلم كيف يتدبر زاده هذا، الذي لن تجدوه في الدكاكين والمتاجر الفاخرة الممتدة والمولات المتلألئة بأضواء الكهرباء في الليل والنهار.

إنما ذلك في متاجر دافئة خفية هي قلوب ساكنة القرية والجبل، المتلألئة دوما برضى وكرم الأهل هناك.
فتزودوا قِراكُم من قُراكُم وجبالكم رحمكم الله، فخير الزاد القيم التي بدأت تندثر في المدينة.

عُضُّوا عليها بالنواجد، فهي لن تكلفكم مالا ولا مقابلا. إنما اعلموا كيف تقومون بغرسها والعناية بها ونشرها وسط المجمَّعات السكنية وملتقيات الطرق والاسواق والمقاهي والمؤسسات…وسط المدن.

وكلما ضمرت الأفئدة وشعرتم بالحاجة إلي هذه القيم، يمموا صوب المعالي في البادية والجبل، فثمة متسع لما تبحثون عنه، وثمة قلوب وأرواح لا تمل من العطاء دون مقابل.

  •  الدكتور مصطفى افقير وارزازات
          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى