الثقافة

نقد سينمائي : أي أساس معرفي؟

  • محمد بكريم//

أود ان استحضر وأنا اتقاسم هذه التأملات حول النقد السينمائي مقولتين تشكلان الخلفية الفكرية العميقة لما اتصوره كنقد سينمائي “مطابق”. الوعي النقدي المطابق او الحلقة المفقودة في منظومتنا الفرجوية.

المقولة الأولى للمفكر المغربي عبد الله العروي حيث يكتب في مقدمة الطبعة الرابعة (2011) لكتابه التأسيسي “الأيديولوجية العربية المعاصرة”: “هذه الأشكال التعبيرية التي نريد اليوم استعارتها من الغير، تحمل في طياتها مناحي موروثة عن ظروف نشأتها في الغرب” (ص. 21)

والثانية للراحل عبد الكبير خطيبي كما أوردتها الناقدة الفنية المغربية-الإيطالية أنطونيلا ماريني في كتابها “كتابات حول الفن) « 2014): “سواء كان الرسام/الفنان مغربيا أو لا، لا يجب أن يعتقد أنه يمكنه استعارة عالم التقنيات الغربية دون أن يتأثر، يتضرر بتاريخ الميتافيزيقا الغربية…”

نعم، وفي مجال السينما بشكل صريح، نتحرك ضمن منظومة صناعة الفرجة العالمية التي لا تكتفي بتوجيه / تأطير ما ننتجه وما سنشاهده بل أيضا نوع الخطاب الذي ننتجه حول الاشكال التعبيرية التي نطمح ان تعبر عن ذاتنا. ولهذا اجدني دائما تحت تأثير “وعي شقي” عندما استعمل – على مضض في غياب بديل – مفاهيم تم نسجها في محيط ثقافي خاص. بمعنى أخر نقدنا السينمائي يتيم اب فكري من طينة أندري بزان…على مستوى قارتنا كان الراحل “بولان سومانو فييرا”  مسكونا بهذا الهاجس..

نقد سينمائي : أي أساس معرفي؟ - AgadirToday

الفيلم يفتح لنا آفاقًا هي أساسًا آفاق فكرية. الفيلم الجيد، الفيلم الذي يعجبنا، الفيلم الذي يجعل حياتنا مختلفة بعد مشاهدته… هو بالفعل وعد بنص جيد. الكتابة عن السينما تعني الانخراط في منطق التحويل والتبادل. لأن الكتابة عن فيلم تعني تطوير فكرة تتناقش مع فكرة أخرى …وتأسيسا على هذه الفرضيات صياغة صور حول صور أخرى. بلاغة أمام أخرى.

تأثر الخطاب النقدي بشكل كبير بغياب “المشروعية”. هذه الأخيرة لا تُكتسب مرة واحدة؛ يجب على النقد أن يصنعها في كل ممارسة. لنقول في النهاية أن مشروعية الفعل النقدي هي انبثاق من منطق الكتابة الخاص به. كنص مستقل يتمتع بالاستقلالية؛ في حواره الصريح مع النص الأصلي (الفيلم). باختصار، إنها مشروعية لا تنتج عن توافق الآراء أو الاعتراف المؤسساتي. هي مشروعية متأصلة في الخطاب الذي يحملها.

اطلعت ضمن قراءاتي وبكثير من المتعة الفكرية (على حد تعبير بارث) كيف يمكن لمساهمة فيلسوف وعالم منطق ذائع الصيت على المستوى الدولي، علي بن مخلوف، أن يساهم في تحسين قراءاتنا للأفلام، وإعطائها أساسًا معرفيًا متسقًا. يطور بن مخلوف تفكيرًا ذكيًا، يتغذى من مساهمات جاك رانسيير (في الجماليات) وميشيل فوكو (في المراقبة والعقاب)، ويعيد النظر في صيغة تم استغلالها كثيرًا في الخطاب السائد لدى بعض النقاد، وهي صيغة “المرئي” و”غير المرئي” في السينما. بالنسبة لبن مخلوف، التحدي بالنسبة للسينما هو تتبع، والتقاط الغريب خلف المألوف.

في السينما، يتعلق الأمر بجعل المرئي مرئيًا كما طوره فوكو بالنسبة للفلسفة. يوضح بن مخلوف ذلك أكثر من خلال تلخيص أطروحة فوكو: دور الفلسفة ليس اكتشاف ما هو مخفي، ولكن جعل ما هو مرئي… مرئيًا بالفعل. تقريب ما هو قريب، فهو مرتبط بنا بشكل كبير لدرجة أنه يمر دون أن يلاحظه أحد… إلا عندما تلتقطه السينما وتعيده إلينا. السينما تلتحق بالفلسفة، تصبح فعلا فلسفيا: تجعلنا نرى… ما نراه. أو بصيغة أخرى: نبصر ما نراه.

أذكر بشكل عفوي فيلمين يجسدان هذا المشروع / البرنامج، ما سميناه “جعل المرئي مرئيا”. أولاً فيلم “النوم الشتوي” للمخرج نوري بيلج سيليان (الحائز على السعفة الذهبية): فيلم عن الحياة اليومية، حكاية بسيطة، حبكة دون تعقيدات “هوليودية”: طفل غاضب يكسر زجاج سيارة، مشاهد طويلة من المناقشات العائلية أو بين القرويين… فجأة نرى ما كنا نتجاهله: الاضطراب، والعنف الرمزي أو الكآبة.

الفيلم الآخر هو “العايل” لمومن سميحي (2005): مشهد الافتتاح، مشهد غداء عائلي بسيط، لقطة عامة ثابتة تستضيف العين بهدوء، كلمات متبادلة… وتمنح المشاهد كل الوقت لرؤية ما كنا نراه كل يوم دون “توقيف الصورة”. بدون رؤية/تبصر،

باختصار. “يجب أن يكون هناك تركيب موسيقي للعين” كما يقول بن مخلوف لرؤية أشياء كثيرة في الحياة التي ليست مرئية بضغط من اليومي نفسه. “السينما، من خلال مونتاجها، هي واحدة من هذه التراكيب”. هي التي تجدد رؤيتنا لكل ما نراه دون أن نبصره

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى