السياسة

نحو 360 مقاولة إعلامية على حافة الإفلاس: عندما يتحول الإصلاح إلى إقصاء

  • توفيق اجانا //

في سياق لا يخلو من التعقيد، جاء مشروع القانون رقم 26.25، الذي صادقت عليه الحكومة بتاريخ 3 يوليوز 2025، “باعتباره محاولة لإعادة هيكلة المجلس الوطني للصحافة وتنظيم مهنة تعيش على وقع تحولات عميقة وضغوط متصاعدة”.

ولا يمكن إنكار أن المشروع قد حمل في بعض مضامينه ما يُعدّ ترجيحًا صريحًا للمصلحة الفضلى للصحافي، وهو منطق سليم يدل على نضج تشريعي مهني عالٍ يراعي حقوق الفاعلين داخل الحقل الإعلامي، ويؤسس لحماية مهنية طالما كانت مطلبًا ملحًّا.

غير أن القراءة التحليلية لبنية هذا المشروع تكشف عن مفارقة مقلقة: فبينما يرفع النص شعار “الإصلاح والتمثيلية”، فإن تطبيقه قد يؤدي فعليًا إلى إقصاء فئة عريضة من الفاعلين في الحقل الإعلامي، وعلى رأسهم المقاولات الصغرى والمتوسطة.

أول ما يثير الانتباه في هذا المشروع هو تراجع منطق الانتخاب لفائدة منطق الانتداب، ما يشكل ضربًا مباشراً لأحد ركائز التنظيم الذاتي، كما كرّسه الدستور المغربي، وهو مبدأ الديمقراطية التشاركية. فتمثيلية الجسم الصحفي أصبحت، بموجب هذا التوجه، خاضعة لآليات مغلقة قد تعيد إنتاج نمط بيروقراطي متحكم، بعيد عن نبض المهنيين، ومهيأ لتكريس سلطة مراكز النفوذ داخل القطاع.

لكن الخطر الأكبر يَكمُن في توجهات المشروع التقنية والقانونية التي تنطوي، بشكل غير معلن، على نوع من “الفرز المسبق” للمقاولات، وفق معايير لا تقدر على تلبيتها سوى المؤسسات الإعلامية الكبرى. وهو ما يجعل المقاولات الصغرى عرضة للإقصاء المؤسسي، إذ يُربَط الاعتراف بها وتمكينها من التمثيلية والدعم بقدرات مالية وهيكلية تتجاوز إمكانياتها الواقعية.

وبالنظر إلى المعطيات الميدانية، فإن حوالي 360 مقاولة إعلامية صغيرة مسجلة قانونيًا في المغرب، تشغل ما لا يقل عن 1080 مستخدمًا، تجد نفسها اليوم مهددة بالإقصاء من المشهد، فقط لأنها لا تملك نفس وزن “الكبار”. وهذا المنحى لا يمس فقط بمبدأ تكافؤ الفرص، بل يتناقض صراحة مع التوجيهات الملكية المتكررة الداعية إلى دعم المقاولات الصغرى باعتبارها دعامة للتشغيل والتنمية الاجتماعية والعدالة المجالية.

المفارقة الصادمة، أيضًا، هي الغياب التام لأي تصور خاص بهذه الفئة في منظومة الدعم العمومي، وكأنها خارج معادلة الإصلاح، رغم أنها تضم طاقات شابة ذات تكوين أكاديمي عالٍ وتضطلع بدور فعلي في تغطية قضايا محلية وجهوية تغيب عنها المؤسسات الكبرى. فهل نحن بصدد “تنظيف” المشهد من الصغار لحساب الكبار؟ وهل من المنطقي أن تتحول إعادة تنظيم قطاع حيوي كالإعلام إلى مدخل للتمييز بدل أن تكون فرصة لإعادة التوازن؟

في هذا السياق، كان من المفترض أن يُراعي المشرّع نفس منطق الإنصاف الذي اعتمده في حماية المصلحة الفضلى للصحافي المهني (المشروع رقم26.25)، وذلك عبر ترجمة المصلحة الديمقراطية كما ينص عليها الفصل 28 من الدستور المغربي، إلى تشريعات عادلة للمقاولات الإعلامية، بصرف النظر عن حجمها.

فبدل اعتماد منطق إقصائي تجاه المقاولات الصغرى، كان الأجدر تبني منطق السلاسة في التشريع وترجيح مصلحتها الفضلى، باعتبارها عنصرًا حيويًا في ضمان التنوع الإعلامي والعدالة المجالية، ومكوّنًا لا غنى عنه في بنية الإعلام الوطني.

ومن المثير للاستغراب أن منظومة الدعم العمومي الموجهة للصحافة لا تتضمن أي رؤية واضحة لتأهيل المقاولات الإعلامية الصغرى أو مواكبتها من أجل التطور والاستمرارية.
فرغم أن هذه المقاولات تُشكل شريانًا حيويًا للإعلام المحلي والجهوي، وتحتضن كفاءات مهنية عالية من حملة الشهادات العليا، فإنها تظل مغيّبة من آليات الدعم، وكأنها خارج معادلة الإصلاح.

لا يُمكن إغفال أن جزءًا كبيرًا من هذه المقاولات الصغرى يشتغل في ظروف صعبة، ويحاول جاهداً الحفاظ على استقراره المالي والمؤسساتي، غير أن غياب سياسة مرافقة أو برامج دعم موجهة خصيصًا لها يجعلها عرضة للتهميش، بل وللإفلاس في بعض الحالات.

والواقع أن تمكين نصف هذه المقاولات من دعم بسيط يمكن أن يضمن لها استمرارية نسبية، ويُؤهلها على المدى المتوسط لتلتحق تدريجياً بمصاف المقاولات المتوسطة والكبرى.

لكن ما يحصل اليوم هو العكس تماماً: إذ يبدو أن منطق الإقصاء هو السائد، في ظل معايير تقنية وقانونية تخدم بالأساس المؤسسات الكبرى، وتكرّس احتكار الدعم والتمثيلية، في تناقض صريح مع مبادئ العدالة المهنية والتعددية الإعلامية. وهو ما يدفعنا للتساؤل: هل المقصود فعلاً هو إصلاح قطاع الصحافة، أم إعادة تركيبه وفق منطق السوق فقط، على حساب التوازن المهني والاجتماعي؟

في نهاية المطاف، لا يُقاس نجاح الإصلاح بصرامة المعايير فقط، بل بقدرته على تحقيق العدالة والإنصاف المهني، وضمان تمثيلية عادلة لجميع الفاعلين، كبارًا كانوا أم صغارًا. وأي تغييب للمقاولات الصغرى سيخلق شرخًا داخل الجسم المهني، لن يهدد فقط مستقبل الصحفيين العاملين بها، بل سيفتح الباب أمام فوضى إعلامية واجتماعية يصعب احتواؤها لاحقًا.

فـالإصلاح الحقيقي لا يُبنى على الإقصاء، بل على الشمولية والتوازن، وعلى إدماج جميع المكونات في ورش التحديث والتنظيم، لا على وزنها المالي، بل على مساهمتها المجتمعية ودورها في ترسيخ إعلام متنوع وتعددي يخدم الصالح العام

إن الحكومة المغربية والمشرع، وهما بصدد ورش إصلاحي بالغ الحساسية في قطاع الإعلام، مطالبان اليوم بتبني رؤية متوازنة وعادلة تُزاوج بين مصلحة الصحفي المهني وضمان شروط استمرار المقاولات الإعلامية على اختلاف أحجامها. ولا يمكن الحديث عن تمكين الصحفي أو حماية مهنته في ظل بيئة تنظيمية تُقصي المقاولات الصغرى وتُضيّق الخناق على إمكانيات استمرارها.

ذلك أن الصحفي المهني لا يشتغل في فراغ؛ بل هو جزء لا يتجزأ من نسيج مؤسساتي يتمثل في المقاولة الإعلامية، التي تضمن له الحد الأدنى من الكرامة المهنية، والحقوق الاجتماعية، والأمن الوظيفي. وإفلاس المقاولة، خاصة الصغيرة منها، لا يعني فقط خسارة عنوان إعلامي، بل هو تهديد مباشر لمصير عشرات ومئات الصحفيين الشباب.

لذلك، نأمل أن يُراجع المشرع توجهاته، ليس فقط من منطلق دستوري كما ينص الفصل 28، بل أيضًا بمنطق الحكمة والعدالة المجتمعية، وأن يُرَجِّح – كما فعل في حماية الصحفي – المصلحة الفضلى للمقاولات الصغرى في كل القوانين ذات الصلة، خصوصًا في منظومة الدعم العمومي، بما يُحقق إصلاحًا حقيقيًا لا يُقصي أحدًا، ويكرس إعلامًا ديمقراطيًا تعدديًا ومستدامًا يخدم الصالح العام.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى