الثقافةالرأي

من وحي المقهى.. عودة خجولة

  • عبد الرحيم الفارسي* //

شعري مبتل كمن خرج لتوه من حمام مغربي ساخن. أبحث عن مكان أستريح فيه لأسترحع أنفاسي بعد المشي مسافة تفوق خمسة كيلومترات، تحت أشعة شمش حارقة بلغت الحرارة معها 39 درجة مئوية.
ألمح من بعيد مكانا عزيزا على قلبي. لن أختار غيره. فهو من سلسلة المقاهي التي تستهويني، خصوصا قرب مسكني في لندن.
المكان مفتوح. مع أولى خطواتي ترتطم بطبلة أذنَيَّ كلمات شابة وكأنها تتشاجر مع جليسها. اللكنة إنجليزية خالصة. في لمح البصر أرمق كمامة موضوعة على طاولة الاثنين. آه كل شيء يذكرنا بأننا في زمن كورونا. على الكمامة ارتسمت آثار أحمر الشفتين…
لا أبالي بالمشهد، فعيناي تبحثان عن صانع القهوة، وقدماي تتسابقان في عناد واضح نحوه. لا أتبين ملامح الرجل خلف الكمامة، لكن لكنته تشي بأنه من جنوب شرق آسيا.
شتان ما بين المشهد هذا، وذاك الذي أثث أيام إجازتي الأسبوعية قبل نصف عام من الآن.
وكأن الزمن مضى بسرعة تفوق الإيقاع الاعتيادي. فيروس كورونا غير فهمنا للوقت.
لقد جالسنا أنفسنا طويلا. تحدثنا معها. دارت بين الأنا والهو الموجود فينا أحاديث طويلة. استمعنا للصمت والسكون. وبدأنا نفهم لغته …
قبل أيام، وبينما أنا في غرفة الأخبار بمقر عملي، صمت الجميع فجأة وبدون سبب. انطلق وقع الأصابع على ألواح مفاتيح أجهزة الكمبيوتر عاليا. كانت الحروف ترتسم على الشاشات. تشكلت الكلمات، ثم اكتسبت معاني داخل جمل وفقرات. كانت تلك الضربات الخفيفة تعِدُّ منتوجات مختلفة لتقارير بعضها موجه للتلفزيون، وآخر للموقع الإخباري، وثالث لمنصات التواصل الاجتماعي.
صمتُنا أعطى الفرصة لصدى لوحات مفاتيحَ تخاطب أشخاصا أصبحت حياتهم أشدَّ ارتباطا بالهواتف والألواح “الذكية”.
شتان ما بين شخصيات هذا الزمن المتسارع، وأولئك المسنين الذين كانوا يؤثثون فضاء مقهاي المفضل في لندن.
كان أصغرهم تجاوز السبعين بسنين. جايلوا فرانك سيناترا والبيتلز وحرب فيتنام، وعيونهم تعلقت بلقطات تلفزيونية لنيلْ أرمسترونغ وهو يقفز كطفل صغير على سطح القمر… وبعضهم حلم بالالتحاق بركب الرفاق السوفييت. كان زمنا صاخبا ومليئا بالآمال والآلام. لقد تلاشت يقينيات تلك الحقبة. الآن حتى هبوط أرمسترونغ على القمر جاء من يشكك في صحته.
وقع الأصابع على لوحات المفاتيح في غرفة الأخبار ذكرني بوقع أكثر صدى ورهبة. كنا نسمعه بمخافر الشرطة في زمن الآلة الكاتبة. أتذكر موظف الأمن العبوس الذي كان كلما اقترب منه أحد المواطنين، نظر إليه شزرا بعينين يتطاير الشرر منهما. كان مدمنا على الزمجرة وتدخين سجائر من النوع الرخيص ذي الرائحة المسببة للغثيان. ربما ألتمس له العذر. فمكتبه لم تكن به نوافذ. ونور المصباح خافت. وحياته الرتيبة كان يقضيها على إيقاع الرقن على آلة حديدية يكرر فيها كلمات بالفرنسية حفظها عن ظهر قلب وأصبحت تقوده بسلاسة نحو نهاية عمره الوظيفي. حتى الآلة الكاتبة ربما ورثها عن محقق فرنسي سبقه في تلك الغرفة الباردة شتاء، الخانقة للأنفاس صيفا. لو قدر لي أن أغوص في نفسه لعثرت على إنسان عاش فراغا رهيبا. فقد توقفت حياته وطموحه عند أفلام بوليسية شاهدها في قاعة سينما بئيسة تسكنها أشباح أبطال قصص أغاثا كريستي وتتردد في جنباتها موسيقى فيلم (The Good, the Bad and the Ugly). رأى خلال سني عمله مجرمين وقتلة وأبرياء. أمام كل هذا تحجرت مشاعره وتوقف تطوره الوظيفي.
لحسن حظي لم أكن أزور الموظف العبوس إلا لطلب وثيقة تثبت عنوان السكن. كان ذلك يحدث مرة واحدة كل عام. لقد أصبح الموظف مجرد عظام نخرة. أما آلته فلا يعرف الجيل الحالي منها سوى صور مبثوثة لمثيلاتها على شبكة الإنترنت.
صوت أذان العصر يخرجني من سهوي.. تتلاشى صورة موظف الأمن.. أطوف بعيني في المكان.. لقد اختفت الشابة الانجليزية وجليسها. وجلست في مقعدهما زبونتان تتحدثان بلسان روسي لا أتبين منه شيئا.
هذا هو حال الدنيا.
*عبد الرحيم الفارسي إعلامي بقناة سكاي نيوز

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى