
حسن كريات: محمد الملاسة.. حين يهزم الحلم قيود الجغرافيا وتنتصر الإنسانية على النسيان
- بقلم: حسن كرياط//
في عمق الجنوب المغربي، وتحديدًا من قرية “إيهامشيون” النائية، حيث الجبال تعانق السماء وتكابد الأرض صمت التهميش، خرج من رحم المعاناة بصيص نور، خطّه شاب لم يرضَ أن يكون ابنًا لليأس، ولا تابعًا لمصير مرسوم في الظل. إنه محمد الملاسة، الطبيب الذي نسج من العزيمة معطفًا يقاوم به صقيع التهميش، وحمل على كتفيه همّ الإنسان في الهامش، ليكون عنوانًا للكرامة والوفاء.
وُلد محمد في بيئة قروية بامتياز، حيث الحياة تقسو بلا مقدمات، وحيث المرض لا ينتظر، والطبيب لا يأتي، والمستشفى أبعد من الحلم. نشأ على إيقاع الحرمان، لكنه لم ينكسر. بل ازدهر في قلبه الحلم الصامت بأن يصبح طبيبًا لا يهرب من الفقر، بل يواجهه، لا يترك قريته، بل يعود إليها. كان يحمل في أعماقه مشروع حياة، لا مجرّد طموح مهني: أن يعيد للإنسان القروي حقه في الحياة، والعلاج، والكرامة.
خطّ الملاسة مساره الدراسي كمن ينحت في صخر. لا دعم، لا موارد، فقط إيمان عميق بأن المستحيل قابل للكسر إذا تسلّح الإنسان بالإرادة. تجاوز المراحل الدراسية بصبر الجبال التي تربى في كنفها، وسافر إلى الديار الغربية حيث قساوة الغربة، وقلة ذات اليد، لكنه ظلّ مشدودًا إلى جذوره، لا يفوّت فرصة ليذكّر نفسه بأنه ليس هناك فقط لأجل شهادة، بل لأجل رسالة.
في الغربة، لم يكن محمد مجرد طالب يطارد الدبلومات، بل كان حامل قضية، امتدادًا لحلم أب عصامي آمن بالعلم طريقًا للنهوض، ومشروع حياة لقرية ظلت لسنوات طويلة تئن في صمت. اجتاز سنوات من الجهد والمثابرة، وتفوق حتى تخرج طبيبًا عامًا، لكن بدرجة “مناضل صحي”، لا ترف في مساره، بل التزام إنساني أخلاقي قبل أن يكون مهنيًا.
عاد إلى وطنه لا كعائد يبحث عن استقرار، بل كمجاهد يحمل الدواء إلى من حُرموه، ويزرع الأمل في صدور أنهكها الانتظار. لم تغره العروض ولا الأضواء، بل اختار أن يمارس الطب في قلب معاناة الناس، بين من يشبهونه في الوجع، والطفولة، والحلم المؤجل.
تحوّل محمد الملاسة إلى رمز في منطقته، لا لأن الإعلام مجّده، بل لأن القلوب أحبّته، لأنه لم ينسَ من أين جاء، ولأنه اختار أن يجعل من العلم وسيلة للتحرير، لا للفرار.
قصة الملاسة لا تُروى فقط لكونها قصة نجاح، بل لأنها درس في الانتماء، والإصرار، والنبل. هي رسالة إلى كل شاب في قرية منسية، أن الحلم لا يُصنع في المدن الكبرى فقط، بل في كل قلب صدّق نفسه، وآمن أن المعرفة نور، وأن النور مهما طال الظلام، لا بد أن يُبصر.
نعم، في زمن تعالت فيه قيم الاستهلاك والركض خلف الماديات، تشرق من “إيهامشيون” حكاية شاب أعاد المعنى لمهنة الطب، وجعل من نفسه طبيبًا للفقراء، لا بالشعار، بل بالفعل، بالحضور، وباختيار التضامن على الامتياز.
فلنكتب اسم محمد الملاسة في دفاتر الذاكرة الجماعية، ولنردده في الأقسام والمدارس، لأنه مثال حيّ على أن المغرب العميق لا يُنجب اليأس فقط، بل يُنجب رجالًا يعيدون للحياة معناها.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News