الثقافة

من تفاسكا إلى عيد الأضحى، بحث في ماهية العيد “الكبير” وارتباطه ببيلماون

لكل إثنية دينية أيام تقع خارج الزمن العادي لتصنف ضمن إطار الزمن القدسي، ما يضفي عليها ذلك الطابع المفارق الذي يضعها مباشرة في خانة المقدس، او كمعارض حدي للزمن العادي وللأيام الأخرى التي تصنف في إطار الإستمرارية الرتيبة والتكرار اليومي للإنشغالات مما يضعها في جانب ال”ماهو دنيوي”، أي الذي تغيب عنه الصفة والطابع المفارق الذي يميز المقدس .

يمكننا القول أن الشاهد الأساسي على التمايز القائم بين المقدس والدنيوي هو قيام الاعياد في مواجهة أيام العمل، لما ينشأ عن ذلك من تعارض بين تفجر متقطع وتكرار يومي للإنشغالات .

وعموما لا يوجد مقدس بدون طقوس، بل أن هذه الاخيرة هي من أدوات تأكيد إشتغاله ومن خلال طقوس التنشئة تعاد إنتاج البنيات العقلية والتطبيقات العملية لاستمرارية المقدس واعادة انتاجه، وإن يكن العيد في ذاته طقس، فإنه لا يكون له وجود تام وكامل إلا من خلال طقوس اخرى فرعية تُتَمِّمُه وتمنحه الطابع المفارق.

ففي الحين الذي يكون فيه فعل نحر الاضحية في العيد الاسلامي طقسا فإنه أبلغ من ذلك بحيث يكون تتويج لمجموعة طقوس تبدأ بالطهارة والامتناع عن قص الشعر وقطع الاظافر لمدة تناهز الاسبوع قبل يوم الذبح … الخ، اذن فالامر لا يتعلق بطقس واحد وحيد لكن بسيرورة يعد الذبح قِمَّتها والامر يتعلق بمراحل ذات تراتب معين تتكامل لتنجح طقس كبير رمزيا لدى المسلمين هو عيد الاضحى .

وبالوقوف على تاريخ العيد بشمال افريقيا (المغرب) فيجب اولا استيعاب أن الاسلام تشكل وتبلور في محيط وبيئة وثقافة بعيدة مكانيا على الاقل عن شمال افريقيا، واتحدث هنا عن الجزيرة العربية التي كان لها نظام عقائد وثقافة خاصة بها تختلف كل الاختلاف عن ما يقع باقصى الجهة الغربية للجزيرة، حيث بلاد الامازيغ بثقافتهم ولغتهم وعقائدهم الخاصة.

وبالتالي فقدوم الاسلام الى هذه الرقعة من الكوكب لم يكن مفروش بالورود بل العكس، يتحدث المؤرخون عن سنوات طويلة من المقاومة والحرب، كان سببها الأساس أن أناس الشمال الافريقي لديهم بناء كامل مشيد من العقائد الدينية التي توافق عقلياتهم ونمط تفكيرهم وتناسب طبيعة أنشطتهم الاقتصادية (الزراعة أساسا )، فكان لابد من الدخول في صراع معتقدات كانت قواه متكافئة بشكل من الأشكال ولم يتمكن أحدهم من إلغاء الأخر فتم إنتاج توليفة عنوانها البارز الأسلمة، لم يستطع الاسلام الغاء المعتقدات السابقة فقام بأسلمتها وغطاها برداء اسلام هجين جديد يناسب عقلية شعب شمال افريقيا.

ومن ضمن الأمور التي تمت اسلمتها الى جانب تقديس الاضرحة والاولياء والمنابع المائية والجن والسحر نجد مسألة الأعياد، وهنا سنقف عند عيد الاضحى وتفاسكا لمحاولة سبر اغوار الترابط والتماهي وكذا مظاهر الاختلاف الطقوسي الذي يظهر أساسا في التسمية(تفاسكا) وفي بيلماون او بوجلود .

إن مُساءلة عيد الاضحى الاسلامي من خلال ما يتداخل معه من طقوس تتمثل أساسا في بوجلود، سيجعلنا نتوصل الى حقيقة مثيرة للجدل، هي أن تفاسكا تسبق عيد الاضحى ، على الاقل في شمال افريقيا، وهي من الاعياد التي تمت اسلمتها، فتافسكا أساسا ليست مرتبطة بموسم الحج أو هجرة النبي(ص) او القاءه لخطبة او للامر علاقة بسيدنا ابراهيم وابنه او اي شيء من التفسيرات الاسلامية، لكن تافاسكا طقس ديني زراعي استعطافي يعاد من خلاله اعادة خلق العالم !

لن اتحدث عن عيد الأضحى الاسلامي لكونه يدخل ضمن خانة الدين الالهي ويكتسب شرعيته من السماء وليس من الارض كما ان تفسيره يقع خارج تخصصي، وربما امور اخرى متعلقة اساسا بتهم التكفير والزندقة التي تجول وتنتظر فيمن تلتصق هذه الايام، وسأقف عند تفاسكا لأحاول فهم الدلالات الانثربولوجية ومدى عمقها الذي لا يقف عند نحر الاضحية بل يمر إلى مايمكن تسميته “ما بعد موت الأضحية”.

تعد تافاسكا طقس ديني يعاد فيه خلق العالم ، او ما يسمى في أوساط أنثربولوجيا الدين بموت الاله وانبعاثه، حيث يموت الاله الهرِم المُتعب لكي يَنبعث من جديد كشاب في صحة جيدة ليمنح القوة والبركة والخصوبة للناس، خاصة النساء، والاله المنبعث هو بيلماون او بوجلود، يدخل البيوت ويمنح البركة وحينما ينسى المرور والدخول على منزل فإن سكان المنزل ينادونه كي يدخل اليهم، لأن عدم دخوله لعنة وحظ سيء وحرمان من البركة .

سبق القول أن العقلية الدينية الامازيغية مرتبطة بأنشطتهم الاقتصادية القائمة على الزراعة، فكانت الطقوس برمتها ذات طابع استعطافي وتخصيبي تخضع للزمن الزراعي ولمواعيد الحرث والحصد، ومن هذا المنطلق تبدو تفاسكا كتأبين موسم زراعي قد مات واحتفال بآمال موسم قادم نشيط وذو مردود مرتفع وحظ جيد وبركة يكون بيلماون/بوجلود رمزا تجسيديا له.

وبهذا تكون تفاسكا تأوين لأزمنة الكون الأولى، او ما يسميه كايوا بالعهد الاول، الذي هو كابوس وفردوس، في الوقت ذاته وللأسباب ذاتها، يبدو فترة بل حالة النشاط الخلَّاق خرج منها العالم الحالي عرضة لعوامل البلى والفناء، لذا كان بولادته مجددا ومعاودته الاغتسال في هذه الابدية الدائمة الحضور يحظى بفرصة مواتية لاستعادة شبابه واسترداد ملء الحياة والصلابة اللتين تتيحان له مواجهة الزمن بدورة جديدة .

وأعيد القول أن هذه الفكرة برمتها ترتبط بالمعطى والمحدد الزراعي الذي يشكل محور رحى العقلية الدينية الامازيغية، فالقول باعادة خلق العالم يستمد مضامينه من تجدد النبت السنوي، فعلى غرار الطبيعة تفتتح الحياة الاجتماعية دورة زمنية جديدة تتجدد فيها الحيوية والنشاط والأمل والبركة.

وكما قلنا فالاضحية التي يتم نحرها في تفاسكا هي رمز العالم المندحر المتداعي والذي على فراش الموت، في مقابل بيلماون الذي هو رمز العالم الجديد المعاد خلقه المليء حيوية ونشاط وخير وبركة، انها عملية رمزية لقتل الاله وبعثه من جديد، وهذا غير ممكن من دون نحر، او بالاحرى من دون دم الذي يعد رمز الحياة والخصوبة، ونفس الامر في الحياة الاجتماعية والزراعية فبدون دم لن تتحرر روح الحقل بتعبير اميل لاووست .

  • بقلم محمد لحميسة

المراجع :
-أقنعة الضحية (عبدالله حيمودي)
– الإنسان والمقدس (روجي كايوا )
-بركة الأولياء (عبدالرحيم العطري )
– الدين والمجتمع (عبدالغني منديب)

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى