
منعطف وادي سوس..مقبرة الثمالى!
- بقلم د.حسن طالب //
في مرحلة الصبا بوادي سوس عشت على ذكرى “خمارة الرحماني المشهورة”، لم تكن تلك الخمارة مجرّد بناية على قارعة الطريق، بل كانت أسطورة سائلة من زجاجات وأنفاس. حانة قائمة على خطأ هندسي وأخلاقي مشترك، يتقاطع فيها الموظفون الهاربون من الروتين، والعابرون الذين فقدوا البوصلة، والذين لا فرق عندهم بين الاتجاهين: تارودانت أو قعر الوادي.
تقع هذه الحانة المشؤومة والمشهورة على بُعد كيلومتر واحد من بيتنا، تماما على طريق أكادير، وكأنها وضعت هناك عمدا، عند ناصية القدر، في خدمة السكارى والعربات المحطمة. المشكلة ليست في الخمرة فقط، بل في ما بعدها… فبعد كل كأسٍ يرتشف كان هناك منعطف يتربص بالسكارى كالفخ. منعطف وادي سوس الشهير، ذاك اللعين الذي ابتلع أكثر مما ابتلع وادي سوس من ابقار ونعاج وخراف…
ومن يدري من أناس. كان منعطفا ملتويًا مثل نية “الرحماني” عندما بنى حانته هناك. كان منعطفا لا يرحم، ولا يُميّز بين بيجو 504 ومرسيدس آخر طراز.كنا، ذات غداء أو عشاء، نجلس حول طاجين أو صحن عدس أو نستعد للنوم . وفجأة، نسمع ذلك الصوت الرهيب كالرعد…فنفهم فورا أن السيارة قد اختارت الانقلاب بدلا من الاستقامة. نترك اللقمة في الهواء، ونهرول، نسابق الفضول والمأساة، نحو المنعطف. هناك، نجد السيارة مقلوبة كسلحفاة مستسلمة، وعجلاتها في السماء كأنها تصلي صلاة الخوف، والسائق يصرخ بين “آه” و”يا ربي”،” عتقو الروح”، فيما رائحة الخمر تُغني عن التشخيص. أحيانا نجد أشخاصا يحبون على أ ربع وهم يخرجون من السيارة المتهشنة عن آخرها . بعضهم يحاول الخروج من نوافذها او واجهتها الأمامية او الخلفية وهو في حالة يرثى لها.
كانت سيارات الأسعاف تأتي إلى هذا المنعرج الخطير أكثر من مرة في الأسبوع الواحد حتى يتخيلها المرء قد حفظت جدول الحوادث، وكانت تظهر تلقائيا أوكأنها كانت لا تنتظر سوى من يبلغها بالحادث.خمارة الرحماني؟ وما أدراك ما خمارة الرحماني!!خسائر بشرية ومادية بكل المعاني: أرواح، أعصاب، سيارات، ومواعيد. لا تزال في ذاكرتي كما هي، وإن كانت قد اندثرت اليوم، خسارات كانت تنتمي إلى نوع خاص من الخسائر: تلك التي تقع عند منعرج بين الطيش والقدر.واليوم…
لم يبقَ من كل ذلك شيء. تم تسوية المنعرج الخطير وأقيمت به مقاهي ومحطة بنزين و حاجز للدرك الملكي غاليا ما يتربصون فيه بسيارات النقل من دواوير مشرع العين واكفاي وأولاد محلة واولادعبو وأولاد رحو ولا سيما سيارات البيجو (البيكوب) التي يعتاش منها بعض من ساكنة المنطقة لأنها مصدر قوت أبنائهم الوحيد ..حلت معضلة النقل التي كانت تؤرق الساكنة.، واختفت الحانة، واختفى معها جيلٌ كامل من الحكايات التي لا تُروى في نشرات الأخبار، بل تُحكى على مائدة طاجين او كسكس في بيت يطلّ على الوادي…
ومما اتذكره ان هذا المنعرج الخطير ابتلع شاحنة ركاب عندما صدمت مقر سي عبد الله الرجل المسن ذو الثمانين عاما وكان المسكين يحرس متلاشيات فلاحية على الوادي..كان المسن يغط في نوم عميق وبينما كنا نتسابق لإخراجه من مأواه استيقظ ورأى الحافلة:” قال: “أش جاب الكار عندي”.
يومها نجا سي عبد الله من الموت بأعجوبة ومرة أخرى انقلبت شاحنة كبيرة محملة بالغازوال الذي أنساب على الطريق فهرعنا إلى المكان محملين بوعية لنملأ حصتنا من السائل الثمين الذي ملأ المكان كله …وتذكرت اني بعت منه جفنتين كبيرتين مقابل أربعين درهما للواحدة…
خاطرنا ونحن أطفال يومها بحياتنا ..أما رجال الدرك فلم يحاصروا المكان الا بعد أن اخذ الرائحون والغادون حصتهم من السائل …بعض الأحيان كنا نبحث عن السيارات المقلوبة في الوادي ذلك أن قنطرة وادي السوس الضيقة كانت اضيق كي تسع عيون المهمومين الذين يتركون القنطرة جانبا فيرتمون في الهواء نحو الوادي الذي يكون. جارنا في فصل الشتاء …حوادث مؤلمة ذكرني بها هذا المنعجرج الخطير….

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News