
كوكاس ينشد أغنية للغائبين في كتابه الجديد “لو يخجل الموت قليلا”
- زهرة العسلي//
في كتابه الجديد الصادر حديثا عن منشورات النورس في حلة أنيقة، ينشد عبد العزيز كوكاس أغنية للغائبين الذين نحس بحجم فقدهم، وبرؤية فلسفية عميقة يسائل معنى الموت، العدم، الغياب، الرحيل، الفقد…
بأفق مفتوح على وخز السؤال وهو يستعرض الراحلين الذي عبروه، وتصل قمة الشاعرية في مشهد تأثيث جنازته وتصوير رحيله. يقول كوكاس وهو يتخيل موته: “في كل لحظات الفواجع، كنتُ أصل متأخرا عن الموت ببضع ثوان فقط، لم أحضر جنازات أصدقاء حميميين، لا لأُراوغ ذاكرة الموت لعله يُسقطني من قائمته، بل لأني أحس دوما أنَّ قنصي جدُّ سهل، يكفي أن يتفوّه الموت ليصلني ريحه الأصفر القاتل، وأحيانا أخرى أشعر أني والموت خصمان لا يمكننا أن نقيم في ذات المكان في الوقت نفسه، أحسه بقطفه لأُلاّفي أنّ سهمَه أخطأ قليلا نبض قلبي، وأنه يقتلني بالتقسيط المريح من خلال خطف من يُبهجني حضورهم..
ما معنى أن تبقى حيا بعد أن قُدتَ أقرب الناس إلى قلبك نحو خاتمتهم، وخلا زمانك منهم.. إنه ألم الأحياء لا الأموات الذين لم يعد يعني لهم الزمان شيئا، والمشكلة هي دوما مشكلة الأحياء لا الأموات الذين رحلوا وما عادوا قلقين على العودة أو على طرح سؤال كيف سنعيش؟”
يسافر بنا كتاب “لو يخجل الموت قليلا” للكاتب والإعلامي عبد العزيز كوكاس، في عالم الفقد ووجع الغياب وحرقة الموتى الراحلين عنا، يقودنا في دهاليز الغائبين، ونستشعر حجم القسوة التي أحسها وهو يُنعي ذاته بين الأموات في جنازة مهيبة بلغة شاعرية شفيفة، نشتهي معها لو لم ينته هذا المارش الجنائزي برغم كل الألم وحرقة الفقد.
يقول المفكر محمد هاشمي في تقديم العمل الجديد لكوكاس الموسم ب”لو يخجل الموت قليلا”: “الجبهة الثانية التي يخوضها عزيز كوكاس في مواجهته لامتناعات الكلام في وجه صمت الموتى، تفتح معركةً تتجاوز تحديات البلاغة، نحو مقتضيات الفضيلة، ذلك لأن كل ميت يفقد الكلمة قبل أن يفقدنا، وفي الغالب تأخذنا اللغة الجنائزية بلوعاتها إلى الحديث عن وجعنا وعن فاجعتنا وعن فقدنا، وننسى أن نفسح للموتى مكانا في لغتنا، فنزيدهم بضجيج منادبنا صمتا على صمتهم، محوا على غيابهم، ونحن نذكرهم في التياعِنا إنما نمارس على غيابهم الكثير من المحو، لأننا نستحضر قبل كل شيء ألم الباقين، وأحيانا في عتاب لمن رحل، هذا ما حاول كوكاس أن يعكسه، وهو يمتشق سيف ناطور الفسح الباردة لليل الغياب ضد غرابيب الجحود الكنودة، بعد أن تحول إلى “حارس وادي النسيان”.
كتاب لا نمل من إعادة قراءته، وكم تحايلت على نفسي وأنا ألتهم صفحاته، بنسيان أين وصلت، لأعيد أوراقا سابقة قرأتها، للمتعة المتأتية من لغة النص الماتعة، والتخيلات الفلسفية والرؤى الساحرة التي وقع بها كوكاس نشيده للغائبين، الذي ماتوا في الحياة واستعادوا بهاء حضورهم في النص.
ويضيف بلغة فلسفية تأملية وهو يستعرض ما خطته يدا الكاتب والإعلامية كوكاس بلغة شاعرية وهو يتمنى من الموت أن يخجل قليلا: “هذا الحارس الذي فرش في تواضع وإيثار كلماته للغائبين كي ينبعثوا مرة أخرى في ضوء الكلام، فإذا بهم مرة أخرى يستعيدون ملامح الحياة، ويرفلون في أبهة لغة كوكاس الشاعرية التي لم تفقده مهنة الصحافة فخامة الكلمات، وعراقة المعجم وفحولته، وإذا به “ينشر” وجودهم بعيدا عن مصائد النسيان، فجعلنا نعرفهم واحدا واحدا، ينبضون بالحياة في خيالنا، كأننا جالسناهم وحادثناهم، وشاركناهم سمر لياليهم وسردياتهم، عرفنا الأب والأخ والأم التي لرقّة ما كتب في حقها، صارت أُمّنا جميعا، والتقينا كل تلك الأسماء اللامعة التي غادرتنا في غفلة من الحياة، فتذكرنا ملامح أصحابها، ونبرة صوتهم، وبصمة فكرهم ومواقفهم، وجلسة الشّلة في دفء الصداقة واضطرام الأفكار، هذا الانبعاث والاستذكار لم يكن بلغة عزيز مجرد استحضار، بل حضورا عجيبا بقدر ما أسعفته اللغة، وأخلاق الاعتراف، وهكذا استطاع أن يكسر سطوة الصمت والموت، بقوة الكتابة، وهكذا جعل الموت “يخجل قليلا”.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News