الثقافة

قبّعة رامبو، جلباب دّا احماد!

  • بقلم جمال بدومة//

الأربعاء 18 نوفمبر تحلّ الذكرى الخامسة والعشرون لرحيل واحد من أهم الكتاب المغاربة في القرن العشرين. قبل ربع قرن بالتمام والكمال، غادرنا محمد خير الدين (1941-1995)، الطائر النادر الذي حلق سريعا في سماء الكتابة، قبل أن يضرب بجناحيه في اتجاه المجهول. ابن تافراوت المتمرد لمع مثل برق، ثم اختفى كأنه لم يكن.

رغم كل هذه السنوات، مازال صاحب “النباش” يحتاج إلى من يزيل التراب عن كنوزه المطمورة، إذ يظل شبه مجهول لدى قارئ العربية ومحدود التداول بين قرّاء الفرنسية، رغم أنه ترك روائع في الرواية والشعر والمسرح. خزانة مدهشة من الكتب التي انتزعت إعجاب الأوساط الأدبية الفرنسية لدى صدورها، وبوّأته مكانة مرموقة بين الكتّاب الفرانكوفونيين، لدرجة جعلت الروائي الجزائري الكبير محمد ديب يقول عنه:

«إنه الأكبر بيننا»، كما احتضنه جان بول سارتر في مجلة «الأزمنة الحديثة»، بعد أن أعجب بأسلوبه الذي يشبه مزاجه الحاد، وخصّص له راتباً شهرياً، وهو من أطلق عليه لقب «الطائر»، ومازال البعض يتذكر نظراته المتقدة وحركات يديه وهو يتحدث بلكنته المميزة، عن الكتابة والحياة، عند برنار پيڤو، أيام كان المرور من برنامجه الشهير «أبوستروف»، حدثا أدبيا.

كان صاحب «انبعاث الورود البرية»، يقف وسط المشهد الأدبي بقبعة رامبو وجلباب “دّا احماد”، ويحرث لغة بودلير في أسلوب مدهش، مستنداً إلى ذاكرة متقّدة، مشحوذة بالأحلام والصور، كأنه يحمل رسالة غامضة تشرّد حياة كاملة من أجلها.

كان مراهقا عندما نشر أولى قصائده في جريدة “la vigie marocaine”. أشعار محبوكة، على الطريقة الكلاسيكية، في لغة فرنسية أنيقة، أدهشت أساتذته. وفي مستهل الستينيات، سيلفت إليه الانتباه كأحد ألمع الأسماء التي قدمتها مجلة «أنفاس»، بإدارة الشاعر عبداللطيف اللعبي…

قبل أن يسقط مثل شهاب ناري في المشهد الأدبي الفرنسي، ويملأ حي سان-جرمان العريق بصخبه وفوضاه. شاب متمرد، باحتياطي محترم من الغضب، كما يشي بذلك ديوانه الأول: “غثيان أسود”، الذي جمع فيه قصائد حانقة على العالم، مغموسة في يأس متأصل، وقرف وجودي أنيق.

وستتكرس موهبته الاستثنائية عام 1967 حين نشرت دار “سوي” رائعته «أكادير»، التي كتبها في أعقاب الزلزال الذي دمّر المدينة عام 1960. الرواية التي كانت تحمل عنوان «التحقيق»، قبل أن يغيره الناشر، تحكي قصة موظف تأمين بعثته مؤسّسته ليشرف على ملفات السكّان المنكوبين. من الصفحات الأولى يشدّنا سرد متدفق يخترقه الشعر والمسرح، ونكتشف شخصية حانقة على كل شيء، تتسلح بالسخرية والغضب كي تتعايش مع يأس الناس وخراب المدينة.

في العام الموالي، نشرت «سوي» روايته الثانية «جسد سالب»، حيث يكرّس أسلوبه الثائر على الأجناس الأدبية، عبر نصّ أشبه بقصيدة طويلة تحبس الأنفاس، عن مراهق يتمرّد على الأسرة والأعراف والتقاليد. في 1969 جمع قصائد تعكس إحساساً حادّاً بالنبذ والتمرّد وتحفر عميقاً في اللغة، في ديوان سمّاه «شمس عنكبوتية».

لم يكتب صاحب «أسطورة وحياة أغونشيش»، شيئا بالعربية أو بالأمازيغية، لكنه يبقى كاتبا مغربياً حتى النخاع. مع محمد شكري ومحمد زفزاف وإدريس شرايبي، يشكل خير الدين نبوغا مغربيا قلما يتكرر.

في الخطابات الرسمية وغير الرسمية، يبدو الجميع متفقا على اعتبار مؤلف “نصب تذكاري” مفخرة وطنية، لكن الجهات المعنية لم تفكر يوما في إنشاء مؤسسة تحمل اسمه أو إطلاق مشروع جدي لترجمة أعماله وتوزيعها كما يليق بمبدع من عياره.

ولا يسعنا إلا ان نحيي Embarek Ouassat ، الذي حرص لوحده على ترجمة ونشر مختارات من شعره ونثره لتخليد ذكرى رحيله الخامسة والعشرين. الكتاب الذي اختار له عنوان “دمي الذي يرشو اليأس”، يمكن تحميله على الانترنيت، ضمن منشورات “حبر” الرقمية، التي اطلقها صاحب “على درَج المياه العميقة”، وسبق أن أصدر من خلالها ترجماته لاشعار اندري بروتون وجمال الدين بن الشيخ وعبد المجيد بنجلون… لا يعرف قيمة شاعر الا شاعر مثله!

حيا أو ميتا، يبدو ألا مكان لكاتب مزعج مثل محمد خير الدين في “البلاد التي” سماها ذات يوم بغير قليل من المرارة والسخرية: « Ce Maroc »… هل لأنه عاش وسط العواصف استحق كل هذا الركام من الغبار

*جمال بدومة*.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى