فواصل: حول صيغة “صحافي شرفي”..
- حسن اليوسفي المغاري//
■ الصحافي لا يتقاعد.
في عالم الصحافة، هل يمكن للصحافي أن يضع قلمه جانبا وينسحب من الميدان؟ الإجابة الأقرب للحقيقة: “أبداً”.
الصحافة ليست مجرد مهنة تُمارس ب{البطاقة المهنية}، وتنتهي بتقاعد رسمي، بل هي شغف متجذر ومسار حياة يستمر حتى آخر لحظة.
الصحافة، بمفهومها العميق، لا تقتصر على نشر الأخبار أو تغطية الأحداث، بل هي مهنة تعتمد على العقل التحليلي، والرؤية الثاقبة، والخبرة الطويلة التي تزداد قيمة مع مرور الزمن. فالصحافي الحقيقي هو شاهد على العصر، يحمل في ذاكرته تفاصيل التجارب التي لا تُقدَّر بثمن، ويواصل كتابة التاريخ حتى بعد أن تنتهي فترة عمله الرسمي.
هناك أمثلة كثيرة لصحافيين بارزين ظلوا في دائرة الضوء حتى بعد التقاعد الرسمي..
■ عربيا، حضور إعلامي متميز
● الصحافي المصري محمد حسنين هيكل، على سبيل المثال، لم يتوقف يومًا عن الكتابة أو التحليل حتى أواخر أيامه، وكان يُنظر إليه كمرجع في الصحافة والسياسة على حد سواء. ولعل كتبه ستظل شاهدة على حضوره، هذا الشغف العميق بالمهنة يجعل الصحافي يعيش حياته في حالة بحث دائمة عن الحقيقة، وكأنما القلم جزء لا يتجزأ من هويته.
● الصحافي غسان تويني، الذي اعتُبر “شاعر الصحافة اللبنانية”، جعل من صحيفة “النهار” منبرا للإصلاح والديمقراطية. وظل يعمل بلا كلل حتى بعد فقدانه ابنه، ليواصل نقل رسالة الحرية والسلام حتى وفاته.
● صلاح الدين حافظ، الصحافي الكاتب المصري المعروف، أثبت أن الصحافة ليست مهنة تنتهي بشهادة تقاعد، بل مساحة لمواجهة التحديات. واصل العطاء في كتابة المقالات والتعليق على القضايا العامة رغم مرضه، وكان صوته حاضرا في القضايا الكبرى.
■ غربياً، شغف لا يتوقف عند الحدود
● الصحافي “والتر كرونكايت” Walter Cronkite، الأميركي المرموق، ومقدم الأخبار على شبكة CBS، بقي نشطًا في التحليل السياسي وكتابة المقالات حتى بعد تقاعده من العمل التلفزيوني، ليظل مرجعًا للصحافة الأخلاقية والصادقة.
● الصحافي البريطاني المخضرم في (بي بي سي)، “جون أليكسندر سيمبسون” John Alexander Simpson، ما زال يقدم تقارير وتحليلات من مواقع الأحداث رغم تقدمه في العمر، مستمرًا في أداء رسالته الإعلامية بروح الشباب.
عندما نتأمل حياة هؤلاء الصحافيين، ندرك أن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل رحلة بحث مستمرة عن الحقيقة. هؤلاء الذين شهدوا الأحداث الكبرى، وعايشوا تحولات المجتمعات، يحملون في ذاكرتهم تاريخا حيّا يجعلهم قادرين على تقديم رؤى فريدة لا تستطيع التكنولوجيا أو التحليل السطحي تقديمها.
ففي عالم يتغير بسرعة، يظل الصحافي المخضرم مصدر إلهام للأجيال الجديدة. إنه ليس مجرد ناقل للأخبار، بل شاهد على العصر، وناقل للحقيقة عبر رؤى عميقة تتجاوز اللحظة الراهنة إلى المستقبل.
في عوالم المهن الأخرى، قد يكون التقاعد نهاية لمسار وظيفي، وفرصة لاعتزال العمل والبحث عن الراحة. لكن في الصحافة، يبدو الأمر مختلفا تماما؛ فالصحافي لا يودّع المهنة، لأنها ليست مجرد وظيفة بقدر ما هي شغف ورسالة تستمر مع الزمن. الصحافة، لمن عرف جوهرها، ليست مهنة تنتهي بعقد رسمي أو بشهادة معاش، بل هي أسلوب حياة، ومسؤولية لا تعرف التقاعد.
في عصر الإعلام الرقمي والذكاء الاصطناعي، قد يظن البعض أن الخبرة البشرية أصبحت ثانوية مقارنة بالتقنيات الحديثة. لكن الحقيقة أن الصحافيين المخضرمين يملكون القدرة على تقديم رؤى عميقة وفهم سياقي لا يمكن للآلة أن توازيه. الصحافي الذي عاش أزمنة متغيرة، وشهد الأحداث الكبرى، يحمل في جعبته مزيجًا من الخبرة والتحليل يجعل صوته فريدا.
■ واقعنا المغربي المتأزم
يعاني الإعلام المغربي من قصور في تقدير قيمة الصحافيين بعد بلوغهم سن متقدمة. يتم التعامل مع الصحافي الذي يصل إلى مرحلة التقاعد (الصحافي الشرفي) على أساس أنه لم يعد قادرًا على الإسهام، رغم ما يمتلكه من خبرة ومعرفة، تراكمت على مدار سنوات من العمل الميداني والتحليل الصحفي.
نحن، نعيش ثقافة التقاعد الوظيفي، هناك تصور اجتماعي واسع الانتشار يربط التقاعد بانتهاء العطاء المهني، مما يؤثر على استمرارية الصحافيين في المساهمة بفاعلية.
الواقع يؤكد عدم استغلال الخبرة، فبدلاً من تحويل الصحافيين المخضرمين إلى مستشارين أو موجهين للجيل الجديد، يتم تهميشهم، مما يفقد المؤسسات الإعلامية فرصة الاستفادة من مهاراتهم. هذا إلى جانب الضغوط الاقتصادية، بحيث أن المؤسسات الإعلامية، خاصة في العالم العربي، تواجه أزمات مالية تدفعها لتفضيل الصحافيين الشباب الذين يتقاضون أجورًا أقل، على حساب الخبرة والكفاءة.
من خلال التجربة، فإن تهميش الصحافيين الكبار، يؤكد أنه يؤدي إلى خسارة الخبرات التي يحتاجها الجيل الجديد من الصحافيين لتطوير أدائهم. إضافة إلى الإحباط المهني الذي يشعر الصحافيون الذين قدموا سنوات من العطاء، بأنهم مستبعدون وغير مُقدّرين، مما يؤدي إلى عزوفهم عن الاستمرار في الكتابة أو التحليل.
لذلك، ومع النقاشات المعلنة وغير المعلنة، وجب إعادة النظر في نظام التقاعد الصحفي، يجب إنشاء مسارات بديلة تتيح للصحافيين المغاربة المخضرمين، تقديم إسهاماتهم من خلال التدريب أو الاستشارات.
ولإدماجهم في المشهد الإعلامي، وتعزيز ثقافة الاحترام، فإن الأمر يتطلب توعية مجتمعية ومهنية بأهمية احترام دور الصحافيين المخضرمين وإدماجهم في المشهد الإعلامي. هذا إلى جانب إنشاء منتديات خبرة، مثل إنشاء مجالس استشارية تضم صحافيين كبار للإسهام في وضع سياسات إعلامية أو إعداد المحتوى.
يظل الصحافي، كما أثبتت التجارب العالمية، قادراً على العطاء ما دام لديه الفكر والرغبة، والمطلوب هو تغيير النظرة النمطية التي تحكم عليه بالتقاعد فقط بسبب عمره.
■ خلاصة: الكلمة أقوى من الزمن
الصحافي الحقيقي لا يتقاعد، لأنه يدرك أن قوة الكلمة لا تخضع لعمر أو وظيفة. سواء كان عربيًا مثل محمد حسنين هيكل وغسان تويني، أو غربيًا مثل والتر كرونكايت، فإن هؤلاء الأشخاص يمثلون رموزًا للعطاء المستمر والشغف الذي يضيء درب الصحافة حتى النهاية. الصحافة إذن ليست مهنة، بل نبض حياة يستمر ما دامت هناك قضايا تستحق أن تُروى.
الصحافي لا يتقاعد، لأن الكلمة لا تشيخ، ولأن شغف البحث عن الحقيقة لا ينتهي مع الزمن. وكما أن الكاتب يبقى كاتبًا حتى آخر أنفاسه، يظل الصحافي متمسكًا بدوره، مدركًا أن قلمه هو رسالته، وأن تأثيره يمتد لأجيال قادمة.
في الصحافة، لا يوجد تقاعد، بل استمرار في النضال من أجل الحقيقة.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News