الثقافة

عيد العرش والمهرجان الإفريقي بأكادير : حين تكتب الثقافة ما تعجز عنه السياسة

احمد بومهرود//

في لحظة فارقة من الزمن المغربي، وتحديدًا على إيقاع الذكرى السادسة والعشرين لتربع صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده على عرش أسلافه المنعمين، اختارت مدينة أكادير أن تحتفل بعيد العرش بطريقة تنسج خيوط المحبة بين المغرب وعمقه الإفريقي. لم يكن المهرجان الإفريقي للفنون الشعبية حدثًا عابرًا أو مجرد تظاهرة فنية، بل كان بيانًا ثقافيًا وإنسانيًا، صريحًا وعميقًا، عن الوجه الحقيقي للمغرب: بلد الجذور، وبلد الجسور.

أمام المحاولات المتكررة لتشويه صورة العلاقات المغربية الإفريقية، تأتي مثل هذه المبادرات لتقول كلمتها بوضوح: إن الأخوة لا تحتاج إلى تبرير، بل إلى تجسيد؛ وإن التضامن لا يُمارَس بالشعارات، بل يُعاش على الأرض، في الفن، في الجامعة، وفي الشارع.

الثقافة كجسر بين الشعوب

المثير في هذا الحدث، الذي جمع بين الدورة الخامسة للمهرجان الإفريقي والدورة الأولى من “أمسية التميز”، هو أنه لم يُقِم حواجز بين الجانب الاحتفالي والبعد الرمزي. فقد اجتمع الطلبة المتخرجون، القادمون من عمق إفريقيا، ليُحتفَى بهم في حفل مغربي خالص، وفي قلبه فولكلور أمازيغي وطقوس مغربية جنوبية. لم يكن هؤلاء الشباب “ضيوفًا”، بل كانوا “أبناء دار”، توشّحوا زيهم الإفريقي، وتوّجوا بسفر المحبة نحو أوطانهم كسفراء للمغرب ولأخلاقه.

إن التكريم الذي نالوه لم يكن مجرد لحظة احتفاء أكاديمية، بل فعل سياسي ناعم، يُعبّر عن فلسفة الهجرة التي تبنّاها المغرب، تحت قيادة ملكه، منذ سنوات: فلسفة الإدماج، لا الإقصاء؛ فلسفة الكرامة، لا الترحيل.

عيد العرش… احتفال داخلي بأفق خارجي

لا يمكن الحديث عن هذا المهرجان دون التوقف عند توقيته الرمزي: ذكرى عيد العرش. هذه المناسبة الوطنية التي لطالما كانت لحظة تقييم للمنجزات، والتأمل في المسار الملكي، تحوّلت هذه السنة في أكادير إلى منصة للاحتفاء بعهد إفريقي جديد. إنها رسالة قوية: أن احتفال المغرب بملكه ليس طقسًا داخليًا فقط، بل هو أيضًا لحظة إشعاع إقليمي، يُبرز من خلالها المغرب وفاءه لإفريقيا كخيار استراتيجي.

فحين يتحدث مدير المهرجان عن السياسة الملكية جنوب الصحراء، ويستشهد بمشاريع البنية التحتية، والصحة، والتعليم، والطاقة، فإن ذلك لا يأتي من فراغ، بل من إدراك عميق بأن المغرب لا يُريد فقط أن يكون حاضرًا في إفريقيا، بل أن يكون فاعلًا، شريكًا، وأخًا كبيرًا في أسرة القارة.

عيد العرش والمهرجان الإفريقي بأكادير : حين تكتب الثقافة ما تعجز عنه السياسة - AgadirToday

رد راقٍ على الدعاية السوداء

كلمات اليوم الثاني، خاصة تلك التي تناولت محاولات التشويه التي تستهدف العلاقة بين المغاربة والمهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، كانت واضحة ومباشرة: “المغرب لا يرحّل المهاجرين في شاحنات إلى الهلاك”، بل يستقبلهم، ويُدمجهم، ويحتفي بهم.
هذه ليست دعاية مضادة، بل حقيقة مجسدة في الشوارع، في الجامعات، وفي احتفاليات مثل هذا المهرجان. لقد اختار منظمو التظاهرة أن يردّوا على الدعاية بالكورال، وعلى الكراهية بالرقص الجماعي، وعلى الأخبار المفبركة بكاميرا الواقع، حيث المغاربة والأفارقة يرقصون جنبًا إلى جنب، بلا حواجز، وبلا عيونٍ متشككة.

إفريقيا… شعرًا وحضورًا

كلمة السيد أحمد بومهرود لم تكن قصيدةً كلاسيكية عن قارة بعيدة، بل كانت شهادة حب ووفاء لقارة تُعاش من الداخل. إفريقيا، في هذه الأبيات، ليست فقط جهة جغرافية، بل “نبض في كل قلب ينبض بالكرامة”، و”مستقبل نحمله في حقائب الأمل”.

إنه خطاب يتجاوز الاحتفالية إلى الالتزام، ويؤسس لوظيفة جديدة للمثقف المغربي: أن يكون رسولًا للتماسك القاري، وأن يجعل من الفن وسيلة لمداواة الجراح، بدلًا من تأجيجها.

خاتمة: المهرجان كفعل سيادي ثقافي

ما جرى في أكادير هو أكثر من مهرجان. إنه شكل من أشكال التعبير السيادي عن انتماء المغرب لإفريقيا. فحين ينزل الكرنفال إلى الشارع، ويشارك فيه مغاربة وسياح وطلبة من 18 دولة، فإننا لا نحتفل فقط بالفن، بل نحتفل بالاختيار الاستراتيجي الذي كرّسه الملك محمد السادس منذ مطلع الألفية: أن المغرب لا يطل على إفريقيا من شرفات السياسة، بل يسكنها من الداخل، في التعليم، في الفن، في القيم، وفي الوجدان.

المهرجان الإفريقي للفنون الشعبية، بنسخته الخامسة، وأمسية التميز بطبعتها الأولى، قد ينساه الإعلام بعد أيام، لكن الذين عاشوه، من أبناء أكادير والطلبة الأفارقة والسياح العابرين، سيذكرونه طويلًا… كعلامة فارقة تقول: هنا، في المغرب، نصنع إفريقيا التي نحلم بها.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى