عظمة أمة: وشهد المرشال اليوطي على أهلها..محطات تاريخية للعبرة
- بقلم امحمد القاضي *//
إستوقفتني عبارة نقشت على قبر المارشال اليوطي، اول سفير ومقيم عام لفرنسا بالمغرب مباشرة بعد معاهدة الحماية سنة 1912، حيث كتب عليها العبارة التالية بحروف عربية فنية: “كلما زدت في عشرة المغاربة، ومهما أطلت العيش بهذه البلاد إزددت عشقا بعظمة هذه الأمة.”
أن تكون قائد متمرس لجيش مستعمر، وكاثوليكي الديانة، وتختار أن يحمل شاهد قبرك كلمات معبرة بإحدى لغة البلد المحتل والمختلف لغة، تقاليدا، والمتدين بالإسلام، ويرقد جسدك، ووسط المتحف العسكري غير بعيد عن ضريح نابليون وسط العاصمة الفرنسية بباريس، فلأنك ترغب أن تترك شهادة للتاريخ بعد أن يتحلل الجسد وتصبح العضام رميم داخل القبر.
عظمة هذا الوطن وتاريخ الشعب المغربي، ولحمته وعبقرية أهله منذ القدم لن ينكرها إلا جاحد مختل، أو من “قطر بيه السقف” وسط الفوضى الإفتراضية والجهل بالتاريخ الممتد زمانا وجغرافيا.
بدون شك، مغرب اليوطي مخالف لمغرب اليوم في عدة جوانب، لكن روح الإلهام وسحر الطبيعة والإعجاب بشعب متنوع ومتشبت بجدوره ووطنيته، هو نفسه الذي يجلب السياح اليوم. ويصفق له العالم في فرحة رقص اللاعبين مع الأمهات على ملاعب كأس العالم بقطر. ماذا يا ترى إمتلك روح المرشال اليوطي ويستهوي الأجانب في المغرب؟
كي لا أتوغل عميقا في التاريخ الذي لا أدعي معرفته، أكتفي ببعض المحطات.
ظل المغرب موطن جدب ومصدر مقاومة ومحطة إلهام لكل من تغول في أعماقه. يكفي أن نتذكر أول ثورة الأمازيغ سنة 740م بقيادة ميسرة المطغري، الذي لا يذكره التاريخ، ضد الخلافة الأموية في عهد الخليفة هشام بن عبد المالك، لتصبح أول تجربة محاولة إستقلال عن الدولة المشرقية بعد أن عات حكامها فسادا في البلاد وإستاءت الساكنة من إستعباد الساكنة وجلب الجواري قهرا، وجوعوا الأهالي بإمتصاص الخيرات نحو الشام.
فمن أرض شمال المملكة عبر طارق بن زياد بجيش مغربي نحو الضفة الأوروبية ليصنعوا التاريخ والحضارة الأندلسية التي تعيش عليها إسبانيا اليوم سياحيا، إلى أن حل الخراب كعادة العرب، مع تطاحن ملوك الطوائف وخرجوا منها منهزمين وصغار في عهد أبو عبد الله (الملقب بالصغير) والذي قالت له أمه عند بكائه: “تبكي كالنساء، على حكم لم تحافظ عليه كالرجال.”
هذه الأرض أنجبت أمثال يوسف بن تاشفين المرابطي، بطل معركة الزلاقة التي أخرت سقوط الأندلس لعدة قرون، وإمتدت أول إمبراطورية في الغرب الإسلامي، من حدود تونس، إلى غانا جنوب الصحراء والأندلس شمالا. ولم ينل حقه في التاريخ ولم يحضى قبره وضريحه بالمكانة المستحقة في مراكش.
في الجهة الشرقية من هذه الأرض السعيدة، توقف الزحف العسكري العثماني الذي إحتل الدول المجاورة من الجزائر إلى مكة المقدسة بالسعودية، بفضل دفاع الملوك السعديين عن الأرض والعرض.
وحديثا، إحتلت فرنسا الجارة الجزائر لقرون وجعلت منها مقاطعة تابعة لها منذ سنة 1830، ولم تنعم بالإستقلال إلا إلى حدود 1962 بعد مساعدة المغاربة.
وعند إبرام معاهدة الحماية وتولي المارشال اليوطي السيطرة على المغرب إصطدم بشعب ومحيط مخالف لما عرفه وجربه في تاريخه العسكري الإستعماري. خبر المقيم العام تولي عدة مناصب عسكرية بالمستعمرات الفرنسية، حيث سبق له أن تولى قائد الأركان خلال الحرب بالهند الصينية، ومدير المكتب العسكري بالفتنام، وحاكم لجزيرة مدغشقر في المحيط الهندي، ثم في أحد أهم مستعمرات فرنسا بشمال إفريقيا آنذاك، وبالضبط الجزائر.
تسيير مستعمرات في مناطق مختلفة جعلته يدرك أن حالة المغرب متفردة ويجب إحترام تعدداته اللغوية وتنوعه الثقافي، وعراقة أعرافه وتجدر مملكته في تلاحم بين السلطان والشعب، وتشبته بمقدساته الدينية.
خبرة الرجل جعلته يحكم سيطرته بواسطة الإختراق التدريجي للبلد بتأجيل خيار القوة، وإستعمال وسائل الترغيب في إحترام منفعي وبراغماتي لخصوصية المملكة. عمل على نقل مركزية السلطان من فاس للرباط، وأحاط العاصمة بمرافق إدارية وبنايات عصرية بجوار المدن العتيقة كما هو الحال بمدينة الرباط، والبيضاء، مع الحفاظ على مشاهد الحياة اليومية للسكان داخل سحر المدن القديمة وترميمها.
حتى اصبح ينعت بالمقيم العام الذي ساهم في إدخال الحداثة في جل مناحل الحياة المدنية التي نعيشها الآن، ونجح في ترويج البروبكاندا الإستعمارية الفرنسية بخيار تكتيكي كآلة إصلاحية تساهم في البناء،
والتشييد وتحكم مع، لا ضد أهل البلد، لأنه فطن لتلاحم السلطان والشعب.
توظيف اليوطي للبعد “الإنساني” كسياسة إستعمارية خاصة بالمغرب وفي تعامله مع قضايا البلد، كتجنب الإساءة لرموز الوطن، وإصطدام الحضارات وإحترام الجانب المحافظ لعادات للسكان، والتقاليد والمقدسات الدينية، كما أن زيارته لعدة مناطق وإعجابه بطبيعته وإختلاطه بشرائح مختلفة من المغاربة، وملاحظاته حول طقوس وطباع الساكنة وحفاظ الناس على القيم، أسقطته في شباك عشق هذه البلاد.
حل المستعمر بالمغرب في فترته العذراء، وعاش اليوطي بين المغاربة حقبة الخير والعطاء، والصدق والكرم والقيم الصادقة في المغرب النافع، كما كان شاهدا على بأس أهل الجبال في الدفاع بحب ووطنية عن حرمة الأرض والعرض والإرث المعنوي ولو بوسائل بدائية، لقنته دروس الحياة بطريقة لم يعهدها في المستعمرات السابقة.
عبارة اليوطي على قبره تنم عن سحر المغرب وجاذبية هذه الأرض الضاربة في القدم. كيف لا، عشقنا المغرب نحن جيل ما بعد الإستقلال، ومازلنا نحبه اليوم بعد الإبتدال الإفتراضي، فكيف لا يحلو فيه للأجنبي ممارسة عشقه العذري؟
عبارة اليوطي على قبره قد تحمل تناقض بين مهمته كمحتل عسكري، ومشاعر الإنسان الأجنبي العاشق للمغرب؛ حيث توفي ودفن بالبيضاء سنة 1934، إلى أن طلب الجنرال دوكول بنقل رفاته سنة 1961 ليدفن بمتحف “ليزنفاليد” بباريس.
العبرة هنا، والسؤال المحير: هو كيف يعشق الحاكم العام المستعمر المغرب، ويسحر بجماله السياح الأجانب، ويحج له أهل الخليج، ويستهوي صناع السينما والفرجة وتتهافت عليه الشركات الكبرى، ويطلب الإقامة فيه الغرباء، وتعترف بعراقة تاريخه وعبقرية ساكنته الحفريات الأركيولوجية، وننعم جميعا بخيراته.
وفي المقابل، يخونه بعض المفسدين من أبناء جلدتها بشتى الطرق، إما إختلاسا للأموال العمومية، أو تهريبا للعملة الصعبة، أونقضا للوعود الإنتخابية، أو تخليا بالواجبات الوطنية، أوتقصيرا في المسؤوليات الوظيفية، وغيرها؟
ولا يخجلون حين يحدثونك في الأبواق الإعلامية بإنجازاتهم الفاشلة، وعلى المنصات الحزبية بقدوتهم التدبيرية، وعلى المواقع الإفتراضية عن صدق نواياهم. ويزعمون أنهم يلقنوننا دروسا في حبهم للوطن، وهو منهم بريئ.
ولهم جميعا عبرة في عبارات المرشال اليوطي على شاهد قبره، وباللغة العربية فوق كل هذا وذاك.
*بقلم امحمد القاضي / رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News