الرأيالسياسة

عبقرية مزيفة.. حين تصبح الرداءة خطاباً سياسياً

  • بقلم: حسن كرياط//

في مغرب اليوم، لم يعد للرصانة السياسية مكان يُذكر. فقد انقلب المشهد رأسًا على عقب، حيث تُسوّق الرداءة على أنها عبقرية، وتُمنح شهادات التميز في الفضاء العمومي لأسماء لا تحمل من الفكر إلا قشوره، ولا من الإصلاح إلا شعارات جوفاء. إننا أمام ظاهرة محيرة: “عباقرة من ورق”، يتصدرون المنابر، ويحتلون الشاشات، ويصنعون من التهريج وسيلة للانتشار، ومن الابتذال وقوداً للخطاب.

لقد دخل السياسي المغربي في لحظة تواطؤ معلن مع الشعبوية، فتخلى عن المعاجم الكبرى، وتنازل عن مضامين البرامج الجادة، ليعتمد بدلاً عنها لغة السوق ومفردات المقاهي. لم يعد السياسي في حاجة إلى إقناع الناس برؤية مستقبلية أو مشروع تنموي، بل أصبح يراهن على “قفشات” ساخرة، وعبارات صادمة، تحقق الانتشار الفيروسي السريع على منصات التواصل، لكنها لا تترك أثراً في وعي الناس أو في حياتهم اليومية.

السياسة التي كانت يومًا فعلًا نبيلًا، انقلبت إلى عروض هزلية تُقدَّم على خشبة الأحزاب، يتبارى فيها الفاعلون السياسيون على نحت مصطلحات خارجة عن سياق القيم، بعيدة عن روح المسؤولية. عبقرية السياسي أصبحت تُقاس بقدرته على ترويض الوعي الجمعي، لا عبر الإقناع، بل عبر التلاعب اللفظي، والاقتراب من المزاج الشعبي، وإن كان ذلك على حساب الذوق العام والاحترام الواجب لعقل المواطن.

وهكذا، بات قاموس السياسيين يستمد مفرداته من الحكايات الشعبية والطُّرَف المتداولة، يركب أمواج “البوز”، ويسوّق خطابًا سطحيًا، هجوميًا، لا يراعي لا عمقًا ثقافيًا ولا ذكاءً جماعيًا. نحن في زمن اللا-معنى، حيث تُختزل السياسة في شعارات خاوية، وتُفرغ من مضمونها، وتُساق نحو التهريج، فتفقد وظيفتها كمجال لصناعة القرار وخدمة المصلحة العامة.

إنه مشهد تراجيدي ساخر، يطغى فيه ضجيج “العباقرة الجدد” على صوت العقل، ويتحول فيه العمل السياسي إلى حلبة للمزايدات الكلامية، بينما الوطن ينزف من فراغ الرؤية وغياب المشروع. لقد أنتج هذا الواقع قاموسًا هجوميًا، يفتقد إلى أبسط القيم التي تأسست عليها العلوم السياسية، وفتح المجال أمام المال والنفوذ ليصنع ما يُسمى بـ”الكائن السياسي”، الذي يقرر في مصير الناس بعيدًا عن أي بعد أخلاقي أو إنساني.

إنه زمن الرداءة، الذي يقتل الطموح، ويغتال الحلم، ويُقصي الكفاءات، في سبيل تمكين التفاهة من مفاصل القرار. زمن لا يعترف إلا بمن يثير الجدل، ولو على حساب الوطن.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى