طوفان الأقصى، بين الفعل ورد الفعل أو محاولات في الفهم والاستشراف.
طوفان الاقصى امتد ليكون طوفان الخطاب، من يشاهد، من يسمع، من يقرأ كل ما كتب تقريبا عن عملية طوفان الاقصى سيجد انها تصب في وديان الابيض والاسود، المدح او الذم، الانتصار لطرف دون الاخر، برؤية ميركانتيلية فجة، اما معنا او ضدنا، وهذا أمر من شأنه ان يجعل الحقيقة غائبة، او ربما مغيبة!
كل الخطابات تقريبا تعبر عن قدر هائل من تصريف الانفعال حيال هول الطوفان وهول تبعاته، والدلو بالقلم في مناخ كهذا يبقى محفوفا بالمخاطر وسوء الفهم المتعمد، خاصة ان لم تخضع لمنطق الابيض والاسود المقدر سلفا.
يمكن اعتبار الطوفان وتبعاته ضمن الاحداث الساخنة التي تملأ العالم، والحديث عنها بجبة الباحث في العلوم الانسانية يبقى صعبا قدر الاستحالة، لأن كما قلت طوفان الاقصى ولد طوفان الخطاب، خطاب انفعالي وعاطفي يؤزم الوضعية اكثر ما يبحث لها عن حل، فمقابل كل منشور محمل بالعواطف هناك المئات من الفلسطينيين يموتون بإحدى الصواريخ الاسرائيلية، وزد ان الباحث في العلوم الانسانية يجيد النبش في للقضايا الباردة التي هدأت أوزارها، فأنذاك تنجلي الاديولوجيا وتنبلج الحقيقة، ولذلك فالدرس الاول الذي يتعلمه الباحث في هذا الصنف من العلوم هو التريث، وعدم الركون للأراء الجاهزة الملقاة في اطراف الطريق.
لم تعد الحرب بين الجيش الاسرائيلي وجيش المقاومة التابع لحركة حماس، حرب ميدان بعتاد عسكري وكفى، بل وأصبحت المعركة هي حول الشرعية في القتل، من يحمل الجواز المختوم لخطف الارواح، من قام بالفعل ومن قام برد الفعل، هل الفلسطيني المغتصبة ارضه منذ عقود، الصابر على مضض لعنجهية واستفزازات الجيش الاسرائيلي واقتحاماته المستمرة للمسجد الاقصى وقتله المستمر للمدنيين واغتياله المستمر للمقاومين…، ام أن الاسرائيلي المظلوم الذي يريد ان يعيش في سلام مع جيرانه الفلسطينيين، والذي استيقظ ذات يوم على هجمات وحشية لم تجعل له خيار غير الدفاع عن نفسه وعن مواطنيه بكافة الوسائل التي يملكها…، هاتين هي الرواتين التي تتبرأ من خلالها الاطراف من المسؤولية والفعل وتعتبر ما فعلته مجرد رد فعل، ودفاع لا هجوم .
ان المخيف في طوفان الاقصى وتبعاته، هو انه بلغ مرحلة يكون معها الفيصل للقضية والشعب الفلسطيني وكذلك لدولة اسرائيل، قد يكون انتحار غير محسوب العواقب من حركة حماس وبالتالي يكون السطر الاخير من مداد المقاومة الفلسطينية، او يكون بداية تحرر فلسطين وانتصار القضية الفلسطينية وبالتالي بداية فصل جديد لمنطقة الشرق الاوسط، لحد الأن هذه هي الحدود الممكنة وتبقى المنطقة الرمادية بينها مبهمة مع تمادي الطرف الاسرائيلي في إستظهار قوتها العسكرية على المدنيين في غزة.
الأكيد ان نتاج هذه الحرب لن تشبه ما قبلها، كما أن الحرب لم تكن يوما هي النهاية، بل بداية شيء جديد، قد نمقت الحرب ونرفضها لكننا لا ننسى قولة هيراقليطس ” الحرب أم الجميع”، لا تحل الصراعات الا من خلال الحرب، التي ينتصر فيها احد الطرفين او تنتج شيء جديد تماما، وهذا نفسه ما يسمى بالقانون الجدلي، اطروحة ونقيض الاطروحة تؤدي بنا الى التركيب، ودوما ما كانت الحقيقة الجديرة بالتصديق مخضبة بالدم، كأن الدم يمنحها الشرعية، وبالدم تتحرر روح الارض كما يقول اميل لاووست في سياق اخر، ما أريد قوله ان الحرب لا بد منها، بكل ما تحمله من مآسي انسانية، لكنها الخطوة الأولى للسلم، وهذا درس يعلمنا اياه التاريخ، لكن الذي يخيف حقيقة هو الفترة التي تفصل بين الفصول الاخيرة من الحرب وبداية السلام، حيت يموت القديم والجديد لم يولد بعد، ويصف غرامشي هذه المرحلة بأنها وقت الاشباح les phantoms.
ويبدوا اننا نعيش زمن الاشباح، حيث الحقيقة سائلة ومتدفقة ولينة تخضع لطوفان الخطابات العاطفية والمؤثرة والمشبعة بإديولوجيا لا تفتئ تؤجج الصراع على المستويين الاسرائيلي بالخطاب اليهودي والفلسطيني بالخطاب المسيحي، وما يبدوا اليوم حرب تحرير او حرب دفاع، يمكن ان يكون ارهاص لشيء يفوقها هو البداية الفعلية لتغيرات استراتيجية دولية قد تحمل في داخلها بذور نظام عالمي جديد!
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News