المجتمع

صناعة مجتمع الطيعين: من عهد النبوغ المغربي إلى زمن الإنكسارات.

  • بقلم: امحمد القاضي//*

رغم نشأة جيل ما بعد الإستقلال داخل أسرة ممتدة يحكمها بقبطة من حديد الأب أو الأخ الأكبر، ووسط مجتمع ذكوري ومحافظ، داخل بنية تقليدية وبإمكانيات إقتصادية متواضعةو ووسائل محدودة، وعالم منغلق تنقصه الوفرة وسرعة التواصل. إلا انه تلقى تعليما هادفا وتربية على القيم التضامنية، التي تعكسها المعاملات المجتمعية. جل الناس تحكمهم قوة إيمانهم بجدوى التعليم و جادبية المدرسة العمومية كوسيلة للترقي الإجتماعي المنصف والمنظومة كنمودج للنمو المعرفي.

التألق في الميدان التعليمي عادة ما يوازيه تطور في مجالات التنشئة الإجتماعية المصاحبة. فالنبوغ المغربي في الميدان الأدبي بكل أنواعه أنتجت مفكرين أمثال الحبابي، والجابري، وغيرهم. كما أن المجال الفني يبدع لمواكبة تعطش الجمهور للإبداع وتدوقه للإنتاج الرفيع، ورفضه للإبتدال بفضل الحصانة التوعوية والتأطيرية، فأعطت الحقبة الفنية أمثال الحياني و أغنية “راحلة”. كما أنتجت المرحلة صناع الفرجة في الميدان المسرحي بعروض متميزية على الصعيد الإقليمي بمساهمات أمثال الطيب الصديقي و”الخراز”.

والميدان الغناء الجماعي الإحتجاجي بالظاهرة الغيوانية المعبرة التي إنبتقت من رحم دور الشباب لتحمل هموم المستضعفين ووصلت للعالمية مع المخرج السينمائي الأمريكي مارتن سكورسيزي وأغنية “الحال”. أما نقاشات النوادي السينمائية التي كان يؤطرها المرحور نور الدين الصايل أعطت لحركات ولغة الكاميرا معنى، وأبدعت بأفلام وطنية أمثال “ابن السبيل” Grand Voyage الذي لعب فيه دور البطولة الإعلامي المتألق المرحوم علي حسن.

كما أن الحركة الطلابية، لم تكن عن منآى من هذا الزخم المعرفي، المؤطرة للصرح الجامعي والرافضة للتطبيع مع الرجعية والواقية لتسلل المذهب السلفي داخل الأوساط الهشة. والعمل السياسي النظيف برجالات الوطن المؤسسين للحركات الشعبية المتشبعة بالوطنية أمثال المرحومين علي يعتة، وبنسعيد أيت يدر الرافضين لإستغلال المناصب لأغراض شخصية ريعية وصفقات مادية. النقابات هي الأخرى تشعل الشارع يوم فاتح ماي بإحتفالية عمالية تثمر مكتسبات إجتماعية وتخلق صمام أمان أمام تدهور القدرة الشرائية للأجورين.

مجتمع صنعته جيل المدرسة العمومية والتربية على القيم الإنسانية التضامنية الموحدة، وتجمعه المطالب الراقية الرافضة للتبعية العمياء، والإنصياع وراء مرجعية مشرقية متطرفة، أناس كونتهم قوى ملتحمة، وأسرة مجتمعة وحي متماسك تقويه السلوكيات المدنية الضاربة في جدور تاريخ المغاربة الأحرار. كل هؤلاء كانوا ملهمين لجيل بأكمله، قريبين من المتلقين تعاطفا وقيما وتعاملا، أشعلوا فيهم فتيلة الحماس والإجتهاد والأمل في بناء غد أفضل.

نمن النفس بالماضي لأن جيل الحاضر أصبح ينتج الإبتدال، ونخبه تفرخ أشباه ‘كفاءات’ تعتز بشهادات مدارسها العليا الخصوصية التي سرعان ما تتحطم أمام جسامة تجربة المسؤولية الميدانية. حتى سجون المملكة أصبحت تأوي أصحاب الجشع والفساد أكثر مما تأوي الصامدين على المبادئ.

فشلت مؤسسات التنشئة الإجتماعية بدأ بالأسرة والأحياء والمدرسة ووسائل الإعلام، مرورا بدور الشباب وإنتهاءا بالأحزاب والنقابات في صنع البديل المنتظر، وإنتاج إستمرارية القيم والمبادئ الأزلية. المدرسة العمومية أصبحت كما كان يصرخ المرحوم أستاذ علم الإجتماع محمد جسوس: “إنهم يريدون خلق أجيال جديدة من الضباع”.

المؤسسات أضحت تصنع الإنهزامية والجبن والعنترية الإفتراضية الفارغة. المنظومة التعليمية تكون أجسام وعقول فارغة المحتوى، جيل الطيعين فاقدي الإحساس النقدي، والرأي السديد.

المؤسسات بشكلها الحالي أصبحت تساهم في ‘تهجين’ المواطنين وترويضهم على التعايش مع الإبتدال والجبن والسطحية، والإنحباس في عمق اللامعنى والإنغماس وسط العبث، والسير على نمط عيش يخدم المجتمع الإستهلاكي أكثر مما يغذي نموهم المعرفي والنقدي.

هذه هي جمالية ماضينا وبؤس حاضرنا، نستحضره لمن لا ماضي له، نقصه على أصحاب الذاكرة القصيرة، قاطني الوطن جسديا والمغتربين عنه فكريا. فحين يكون ماضينا أفضل من حاضرنا، فالخلل والعيب فينا قبل غيرنا.

كان جيل ‘المرحومين’ قدوة نعتز بهم، فأي قدوة من أهل الحاضر سيفتخر بها المستقبل؟ أبي كثرة المستغربين والمستلبين فكريا وعقائديا، أم بالمسؤولين المتابعين قضائيا في جرائم نهب المال العام والفساد الأخلاقي؟ لسنا هنا أمام صراع الأجيال، بقدر ما نحن أمام إنحطاط قيم، وضعف في الوطنية الصادقة. علينا أن نقر أننا فشلنا في بناء الإنسان المغربي القادر على إبتكار حلول فعالة، و خلق إختيارات سديدة وعلى مواجهة تحديات الأزمنة الصعبة.

فبأي عزة النفس وإفتخار سنلقى المستقبل؟ فأي مساهمة قيمة سيسجلها التاريخ لصالحنا وتحسب لنا في بناء الحضارة الإنسانية؟

*رئيس جمعية تيويزي للتنمية الإجتماعية لأيت عبد الله.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى