المجتمع

صرخة المنسيّين: حين تُولد الأحلام من ركام النسيان

  • بقلم حسن كرياط //

من رحم العشوائية، انبثق حيٌّ قصديري لم يختره ساكنوه، بل اختارهم هو، دون استئذان، دون فسحة للتفاوض مع القدر. جاء بهم إلى أرض لم تعد تعدهم بشيء سوى الصمود، وجعلهم أبناءً لزمن بلا ملامح، حيث العيش مقاومة يومية، والصمت لغة مفروضة.

كان الحي ذاكرةً من صفيح، وجوهًا أنهكها التعب، وأزقة ضيقة تتنفس بالكاد. لم يكن وليدَ بناءٍ مخطط، بل ابن زلزالٍ لم يُسقط ضحايا، لكنه بعثر مصائر. كأن الأرض التي اهتزّت يومًا قد تآلفت مع بُنْيَانه الهشّ، ووهبته مناعةً ضد السقوط. في وسطه، أعمدة خشبية مترنحة، قاومت بأسنانها عواصف النسيان، وحين كان الزمن يمرّ فوقها، كانت تتمسك بالبقاء كأنها تخشى أن تصبح أثرًا بعد عين.

سجّل التاريخ على جدرانه المتهالكة أن أكادير سقطت، لكن قيامها كان أمانةً في أعناق أهلها. غير أن البناء لم يكتمل يومًا، وكذا الأحلام التي وُئدت تحت حجارة المجهول، فسقط الانبعاث في متاهة السقوط المتكرر، وانحدرت الأرواح في دوائر مغلقة من الخذلان، أمام أنظار حراس المدينة، سيدي بونقنادل وبوجمعة اكناون، كأنهما شاهدان على عُمر من الوعود المبتورة.

على هامش المدينة، نُصبت خيامٌ جمعت غرباءَ تحت سماءٍ واحدة، جاءوا من كل فجّ يحملون في قلوبهم حب الأرض، لكنهم فرقوا بينهم بأنسابٍ لم يختاروها. كانت سواعدهم وقودًا لمصانع المدينة، يُستهلك عرقهم بأجورٍ ضئيلة، بلا أدنى اعتبار لإنسانيتهم. كأنهم لم يُخلقوا إلا ليكونوا تروسًا في آلة لا تتوقف عن طحن الأحلام.

ومع ذلك، كان للحلم فسحته الصغيرة. في طفولتنا، كنا نُشكّل من الجوارب القديمة كرةً، ونجري بها بين الأزقة، نحلم بأن نغدو أبطالًا عالميين، نتصدر عناوين الصحف، ونرفع اسم الحيّ بين الأحياء. كانت أحلامًا بسيطة، لكنها في أرواحنا امتدت حتى بلغت السماء.

كانت أمي تستيقظ مع الفجر، تعدّ لنا فطورًا متواضعًا لكنه كان وليمتنا المفضلة: قطعة خبزٍ وكأس شاي مطهوّ على نار الأعواد التي كنا نجمعها من الغابة المجاورة. نلتهمه على عجل، ونسابق الوقت حتى لا يُغلق باب المدرسة الحديديّ في وجوهنا.

هناك، لم يكن معلمونا يرون فينا سوى ثيابنا البالية وأجسادنا النحيلة التي شابهت ماوكلي، كأننا أبناء عالم آخر لا ينتمي إليهم. لم يسألوا يومًا عن أحلامنا، بل كان السؤال الدائم: “قل لي من أبوك، أُخبرك من أنت!”

وهكذا، بين الحارات الضيقة، نسج الحيّ حكايته، وخلّد في وجوه أقراني قصة جيلٍ ساخط، ناقمٍ على واقع لم يختره، وعلى ولادةٍ لم يُستأذن فيها. فهل يُبعث الحيّ يومًا؟ أم أنه سيظل مجرد صدى يتردد في ذاكرة المنسيّين؟

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى