الثقافة

..”صديق العميد”..

  • بقلم عبدالرحمان بلعياشي //

“صديق العميد”، عبارة التقطتها أذناي وأنا على مائدة غذاء، أقيمت بإحدى كليات الآداب المغربية، بمناسبة انعقاد مؤتمر دولي حول الترجمة تم فيه تكريم مترجم وشاعر معروف، ينحدر من إحدى دول المشرق العربي. بينما التف المشاركون في الندوة حول موائد الأكل المتراصة في فضاء اجتماعي بهيج داخل الكلية، إذ جلس بيننا على مائدة الطعام رجل كتوم، لم يتلفظ بأية كلمة، لا أحد منا يعرفه،  ولم نراه في الجلسة الافتتاحية ولا في جلسة الصباح الأولى، أو لم ننتبه على الأقل إلى حضوره. كان الأمر عاديا لمن كانوا يشاركونني المائدة، ما عدا بالنسبة للمترجم المشرقي، الذي كان فضوله أكبر، وإصراره أقوى، حد الهوس، على معرفة هوية الشخص المجهول. فبدأ يسألنا واحدا واحدا دون كلل أو ملل، وكان الجواب كل مرة بالجهل أو بالتجاهل، إلى أن اهتدى أستاذ جالس على يميني وعلى يسار الضيف العربي هذا بالجواب، بمعرفة أو بغير معرفة، فرد عليه ببرودة أنه، أي الشخص المجهول، “صديق العميد”. عندها عم صمت رهيب، وبدأت أنظار من جلسوا إلى مائدة الأكل تتجه إليه، خاصة عيني الضيف المكرم، الكبيرتين واللامعتين. وكان من كثرة الدهشة أو الاعجاب، أن بادر بالحديث إليه والترحيب به والاعراب عن امتنانه له وشرفه بالتعرف إليه، فقط لأنه “صديق العميد”. هذه العبارة التي تبدو عادية جدا، غيرت لغة تخاطب وكلام وحديث صاحبنا العربي. وتغير موقفه، وتغيرت نظرته، بل وأصبح يركز على “صديق العميد” هذا، أكثر من غيره، وهو يتكلم، في مسعى  منه لاكتساب وده وتودده، في نوع من التفاخر بهذا التعارف أو على الأقل بهذا الاكتشاف. وربما يعود المترجم العربي إلى بلده، فيقص على أصحابه حكاية اللقاء العجيبة، كما لو كان ذلك فعلا بطوليا فريدا، أو إنجازا عربيا غير مسبوق. تنكشف أحيانا نواقص الإنسان عبر مواقف جد بسيطة وجد عادية.

تسير المجتمعات الإنسانية في الغالب وفق ضوابط وقواعد وأعراف، يصعب على الفرد زعزعتها، لأنها ترسخت وتجذرت، ووجدت في عقول الناس ووجدانهم ما يكفي من الحماية، تضمن لها الاستمرارية والخلود. وهذا ما ينجلي في سلوكياتنا اليومية، ونستعمل للتعبير عنه، عبارات ومقولات، أصبحت مع الوقت تشكل جزءا من المشهد الثقافي ومن المخيال الشعبي، وأصبحت أيضا مع الوقت مسلمات تابثة غير قابلة للنقاش، لا يمكن زحزحتها أو زعزعتها، بل وتتكرس جيلا بعد جيل، وسنة بعد أخرى. أصبح الجميع يتباهى بمعارفه، خاصة ممن هم في مراكز حساسة، أو من المعارف المقربين من هذه الشخصيات، ويعتقدون أنهم قد يتوسطون إليهم  في حال الحاجة أو عند الاقتضاء. كما يعتقد الجميع أن هذه الطريقة سليمة لقضاء المآرب والاغراض، ولا أحد يرى فيها ضررا، ولا أحد يصنف الفعل في خانة الفساد.

مقولات شائعة ساهمت التجربة في ترسيخها كسلوك وكمنهجية عمل داخل المجتمع. عبارات تكرس مضمون  وروح جملة “صديق العميد”. مقولات تفيد وتعكس الاختلالات الحاصلة داخل المجتمع في علاقة الأفراد فيما بينهم، علاقات مبنية في مجملها على المصلحة والمنفعة. فأصبح الجميع يتغنى بها، بل ويتباهى بها، والقلة القليلة فقط تتحسر على ما آلت إليه الأوضاع بسبب أمثال عبارة “صديق العميد”، باعتبارها أصل جميع أنواع الفساد المستشري في المجتمعات الحالية. ويسود الإعتقاد أنه كلما كثرت معارفك او معارف معارفك، ستكون مرتاح البال، لأنه يوجد دائما شخصا تعول عليه، ليمد إليك يد العون عند الحاجة، أو  هكذا نعتقد. فأخذ الجميع يردد  هذه العبارات وكأنها شعارات يجب أن لا تغيب عن أذهاننا. وهذه إشارة قوية بالطبع على أن هناك خللا في المجتمع، أزمة قيم بهكذا العبارة. وقد لقيت مقولات من قبيل “باك صاحبي” أو “كاينة جداك عند المعروف” أو “للي ما عندو سيدو، عندو للاه” إقبالا كبيرا ونجاحا منقطع النظير داخل المجتمعات البشرية بشكل عام، وبصيغ مختلفة. وتبقى آخر مقولة سمعها المغاربة هي “صيفتني عندك ج…”. كم نعرف إذن في مجتمعاتنا من أشخاص من قبيل “صديق العميد”؟  وكم منا يعول على هذا “الصديق”؟

هذه المقولة تحيل بالطبع عن سلوك شاذ وغريب، يلغي بطبيعة الحال مبدأ تكافؤ الفرص، على الخصوص في مجالات بعينها منها التعليم والشغل والصحة، وغيرها، على اعتبار أنه، أي السلوك، يؤسس لمبدأ التفاضل والتمايز والمحسوبية والزبونية، حسب درجة المعرفة أو نوعية القرب من هذه المعرفة، وكل ما تحمله من مزايا من هذا الطرف أو من ذاك. وفي مجالات أخرى تعبر عن عدم احترام الآخر، خاصة عندما يتعلق الأمر بمجال حساس مثل مجال الخدمات، حيث يكون الانتظار طويلا وشاقا، أو عندما يكون الحصول على بعض الوثائق أمرا صعبا أو غير قانوني، فيتم استثمار المعارف أو أصدقائهم للحصول عليها. في هاتين الحالتين والحالات الأخرى، يتعلق الأمر بمسألة أخلاقية، أو لنقل، يتعلق الأمر بأزمة منظومة القيم، التي من المفروض أن تجعل الفرد يتصرف داخل الجماعة في احترام تام لباقي الافراد، وكل فعل يخل بهذا المبدأ، يعتبر بالضرورة منبوذا ومرفوضا.

وهناك من يستقوي بزعم أن لديه معارف نافذة في الرباط، يعني “ناس الرباط”، وهي تمثلات شائعة في المخيال الشعبي لرمزية المدينة، كونها العاصمة الإدارية للمملكة. أشخاص يعملون على زرع الرعب في نفوس المواطنين، بإيهامهم أنهم سيلقون أشد العقاب لجهلهم بمن يحميهم. فتراهم يختبئون وراء هذه الأوهام، بل ويتفوهون على مرأى ومسمع العموم بمقولات من قبيل: “ألا تعرفني؟!، سأريك من أكون!؟، أنت لا تعرفني بعد!؟، سأخبر ناس د الرباط!، سآتي بالرباط كلها!، سأريك!، اعطني بعض الوقت (ريثما أتصل)”، وغيرها من التعبيرات، التي تنم عن وجود فساد غير مقصود على العموم، في دمائنا وفي شرايينا. الإنسان يميل على العموم إلى الطرق البسيطة والمختصرة لقضاء مآربه، وبالتالي لا يرى ضررا إن استعان بالمعارف أو من يتوسط في ذلك، وحتى إن  كان لا يعرف أحدا، فهو يبحث بكل الوسائل وفي كل مكان، عمن يمكن أن يوصله إلى الشخص المطلوب، عندما يقع في ورطة أو  يحتاج إلى خدمة ما،  سيما إن كان هذا الشخص صعب الوصول، بدعوى أن الجميع يقوم بهذا التصرف، الذي استطاع مع الوقت ان يصبح ممارسة وسلوكاً اعتياديا عند الجميع. مثال ذلك ما نراه عندما توقف الشرطة أو الدرك في مختلف نقاط المراقبة، سائقا مخالفا. أول ردة فعل السائقين المخالفين هو البحث في ريبيرطوار هواتفهم النقالة عن أرقام معارف، قد تنقذهم من أداء غرامات مالية نظير عدم احترامهم قوانين السير والمرور. ويعتبرون ذلك سلوكا عاديا، ولا يحسون بالتالي باي حرج في القيام به.

وهناك تجليات أخرى لهذه الظاهرة في حياتنا اليومية. فنجد الكثير من الناس ينتابهم شعور بالفخر والاعتزاز بمجرد التقاءهم بالصدفة، في الشارع  أو في القطار أو في الطائرة أو في المطعم أو في المسرح، وغيرها من الأماكن العامة، مع نجم أو شخصية مرموقة أو مشهورة أو عامة. ويزداد الشعور بالافتخار إن ابتسمت هذه الشخصية في وجوهنا، أو إن بادلتنا التحية بالقبلة او فقط باليدين، أو إن مدتنا برقم جوالها الشخصي. فيصبح هذا اللقاء العادي والعرضي والعابر، حديثنا مع الجميع وكأنه حدث مهم يستحق فعلا أن نتحدث عنه، ونظهره في السرد والحكي وكأننا أبطالا، حققنا المعجزات. هو تعبير صريح عن عقدة ما في مكان ما في شخصيتنا. غالبا ما يبحث الإنسان عن نفسه وقيمته في الآخر، في الآخر ليس فقط باعتباره مختلفا عنا في المزاج والطباع، بل باعتباره في اعتقادنا أفضل منا، بحكم شهرته فقط. هي صور نحن من صنعناها في أذهاننا وصممناها في خيالنا بإتقان، وصرنا لها أسرى، غير أننا سعداء في الغالب بها، فهي تشعرنا بقيمتنا أو توهمنا أن لدينا قيمة في هذا المجتمع الممتد والمتنوع والمترامي الأطراف. مجتمع تذوب فيه الأفراد، وتفقد بالتالي حضورها وسط الجماعة، ونحاول استعادتها، وإعادة تشكلها بمرجعيات خارج الذات، يستعملها المجتمع برمته ليجد كل ذاته في الغير.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى