
صالح الباشا: حين يتحول الحب إلى أغنية، والوجع إلى فن لا يموت..
بقلم: حسن كرياط
في أحد تلك القرى المنسية المتوارية خلف ظلال جبال مدينة الصويرة، وُلد فنانٌ عصامي اسمه صالح الباشا، لم يكن مجرد فقيه حامل لكتاب الله، ولا فقط شاعرًا يخطّ الحزن بحروف من نار، بل كان صوتًا نقيًا من أصوات المغرب المنسي، ذاكرة حيّة لوجدان أمازيغي أصيل، وصوتًا غنائيًا صدّاحًا حمل رسائل الحب والإنسان، والحنين للأرض التي لا تخون.
كان صالح الباشا رجلًا بسيطًا في مظهره، حافي القدمين إلا من عزة نفسه، يفيض وجهه بخشوع العارفين، ويذيب بصوته شجن الحياة. حافظ للقرآن، لكنه أيضًا حافظ للألم، مترجم للحب الذي لم يكتمل، ومنشد لقيم الوفاء التي لم تعد رائجة في زمن الخفة والنسيان. لم يتعلّم الغناء في المعاهد، بل نهل من ينابيع التقاليد، من حزن الجبال، ومن دموع النساء في الأعراس، ومن حكايات العشاق الذين هزمهم القدر.
في ريعان شبابه، وقع في حب فتاة من أقاربه، كانت مزيجًا بين نقاء الفجر وحياء الغيم. أحبها بصدق الفطرة، وبنقاء قلب لم يعرف المراوغة، لكنه اصطدم بواقعٍ قاسٍ، حين رفض والدها تزويجها له، فقط لأنه فقير لا يملك من حطام الدنيا إلا علمه وصوته وأحلامه. تلك الصدمة لم تقتله، لكنها بدّلت مجرى حياته، وفتحت داخله نهرًا من القصائد والأنين.
أقسم أن لا يتزوج بعدها، لا عن يأس، بل عن وفاء. قالها ذات مرة: “الحب الحقيقي لا يولد مرتين، وما يأتي بعده ليس حبًا، بل تمرين على النسيان.” ومن يومها، صار الحزن صديقه، والغناء منفاه الجميل.
لكن صالح لم يكن فقط شاعر حب، بل كان أيضًا فنان الإنسان، الفنان الذي غنّى للكرامة، للأرض، للهوية، للمرأة، للطفولة، للمنفى الداخلي، وللأمل الذي يشقّ الصخور. له رصيد فني مهم من الأغاني الأمازيغية الأصيلة، التي ظلّت تتداول في الهوامش، وفي الأسواق الشعبية، وفي المناسبات العائلية، دون أن تجد طريقها إلى الإذاعات الرسمية أو أعين النقاد. كان يغني للأرض كما لو أنه يصلي، ويغني للحب كما لو أنه يبكي، ويغني للناس كما لو أنه يحتضنهم.
لم يكن نجم المهرجانات الكبرى ولا حديث الصالونات الثقافية، لكنه كان نجم القلوب المُتعبة، وصوت المهمّشين، ورفيق أولئك الذين عرفوا الحب في زمن الشظف. كان الحفل عنده خشبة متواضعة، لكنها ترتفع بصوته إلى مقام القداسة.
ومثلما عاش بعيدًا عن الأضواء، مات في صمت. رحل وحيدًا في بيته بحي دراركة بأكادير، دون ضجيج، دون تكريم، دون حتى جنازة تليق بمقامه. لم يُكتشف خبر وفاته إلا بعد مرور أيام، حين دخلت السلطات إلى منزله المتواضع، فوجدت الجسد ساكنًا، لكن الروح كانت قد حلّقت منذ زمن بعيد.
وكم هو مؤلم أن يُحذف إرثه من الإنترنت اليوم، كأنهم يحاولون دفنه مرتين. لكن من يعرف صالح، يعلم أن أغانيه لا تسكن الأقراص الصلبة ولا منصات “اليوتيوب”، بل تحفظها القلوب، وتتناقلها الأرواح. أغانيه في ذاكرة العشاق الذين جرّحهم الواقع، وفي صدور من لا يزالون يؤمنون بأن الفن يمكن أن يكون صلاة، وأن الوفاء لا يُدرّس في الكتب.
لقد كان صالح الباشا نموذجًا نادرًا لفنانٍ عصامي صنع نفسه من الطين، من الجرح، من الحنين، من اللغة الأمازيغية التي صاغها نغمًا خالدًا. هو الشاعر الذي لم يقرأه الناس كثيرًا، لكنهم سمعوه، وبكوا بصوته، وتعلموا من حكاياته أن الحب لا يموت إذا صادف قلبًا مؤمنًا، وأن الأرض لا تخون من غنّى لها.
اللهم ارحم من صدق، من غنّى دون زيف، من أحب دون شرط، ومن مات كما يحيا الكبار: بصمت، لكن بخلود.

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News