الثقافةالرأي

سوسيولوجيا الفعل الجامعي: بين المعنى المُنتَج والتخييل الاجتماعي..

بقلم : الدكتور محمد العماري*//

في زمن يتسم بكثرة الأحكام المتسرعة، وتعميم الاتهامات الجاهزة، وتكثف الخطابات التبخيسية تجاه الجامعة المغربية، تبرز بإلحاح الحاجة إلى إعادة مساءلة الطريقة التي نتحدث بها عن هذه المؤسسة، لا من موقع الدفاع التبريري الذي قد يغفل مواطن الخلل، ولا من زاوية الإدانة المجانية التي تُقصي إمكانيات الإصلاح، بل من منطلق التفكيك النقدي والتحليل المركب الذي يُعيد بناء صورة الجامعة داخل المخيال الجماعي.

فالجامعة ليست مجرد بناية إسمنتية أو مقرات إدارية تحوي مدرجات وصفوفًا ومكاتب، بل هي فضاء سوسيو-رمزي تتقاطع فيه تجليات البنية الاجتماعية والسياسية والثقافية، وتُختبر داخله رهانات السلطة والمعرفة، والتفاوتات الطبقية، وتطلعات الأفراد نحو الترقّي والاعتراف. إنها مرآة تعكس تناقضات المجتمع، وتُجسد توتراته بين التقليد والتحديث، بين الاندماج في اقتصاد المعرفة العالمي والانغلاق في منطق البيروقراطية والتهميش.

كما أن الجامعة، كمؤسسة لإنتاج المعرفة وتشكيل النخب وتكوين الأطر، تحمل على عاتقها مهمة مزدوجة: أن تكون فضاء للنقد والتفكير الحر، وفي الآن ذاته مختبرًا لإبداع حلول مجتمعية مستدامة. من هنا، يصبح من الضروري تفكيك تمثلاتنا السائدة حولها، والانتقال من خطاب الأزمة إلى خطاب الإمكان، ومن المقولات القدحية إلى سؤال المعنى والدور والرهان.

جامعة ابن زهر، التي تمثل أكبر تغطية جغرافية على المستوى الوطني، إذ تنتشر عبر أكثر من نصف تراب المملكة، لا يمكن اختزالها في حادث معزول أو خرق إداري مهما كانت خطورته، لأنّها ليست مجرد مؤسسة جامعية قائمة بوظيفتها التعليمية والإدارية، بل هي كيان رمزي متشابك الأبعاد، يحمل في بنيته وتاريخه وتجلياته اليومية معاني مركّبة تتجاوز الإطار الضيق للمكان واللحظة. لقد تحولت هذه الجامعة، على مدى عقود، من امتداد جامعي صغير في مدينة الجنوب إلى قطب إشعاع علمي وثقافي واجتماعي وهوياتي، استطاع أن يحتضن طاقات شبابية من مختلف مناطق المغرب، وأن يكوّن نخبا علمية وفكرية ساهمت في تغذية الحياة العمومية محليا ووطنيا.

غير أن هذه الدينامية لم تكن يومًا محصّنة من الأعطاب البنيوية التي تعاني منها المنظومة الجامعية المغربية ككل، ولا كانت بمنأى عن الضغوط السياسية والإدارية التي تفرضها منطق الدولة المركزية، ولا عن إكراهات الخصاص والارتجال الذي يطبع أحيانًا السياسات العمومية في مجال التعليم العالي. فالجامعة، بهذا المعنى، ليست مجرد فضاء لنقل المعرفة، بل مجال للصراع الرمزي حول شرعية إنتاجها، ومنصة تتقاطع فيها رهانات الدولة ومشاريع الفاعلين المحليين وانتظارات المجتمع. وهي أيضًا مجال تتجسد فيه التفاوتات المجالية والطبقية، وتُختبر داخله جدلية الهوامش والمركز، في ظل مركزية القرار وتفاوت توزيع الموارد والفرص.

من هنا، يصبح من الضروري، عند الحديث عن جامعة ابن زهر، تجاوز المقاربات التبخيسية أو التمجيدية السطحية، والتموقع بدل ذلك داخل خطاب نقدي بنّاء، يُعيد التفكير في هذه المؤسسة باعتبارها مرآة لتحولات المجتمع المغربي وتناقضاته، وأفقًا لإعادة بناء علاقة الجامعة بمحيطها، لا باعتبارها عبئًا مؤسساتيًا، بل كرافعة للتحرر الفكري والتنمية الثقافية والاجتماعية.

في أعين الكثير من أبناء الجنوب، تمثل جامعة ابن زهر أكثر من مجرد مؤسسة تعليمية. إنها وعد بالانتماء إلى العالم، نافذة على المستقبل، رمزية قوية للعدالة المجالية التي غابت لعقود. إنها الجسر الممكن نحو “المدينة”، نحو الارتقاء، نحو الكرامة الاجتماعية. وفي هذه الرمزية يكمن أحد أوجه القوة، ولكن أيضًا أحد مصادر الهشاشة: فحين تُصاب الجامعة في رمزيتها، فإن الجرح يتجاوز حدود الحادث، ليطال الإيمان الجماعي بها كمؤسسة تحقق الوعود وتُجسد الاستحقاق.

في خضم الاتهامات التي طالت الجامعة مؤخرًا، نجد أنفسنا أمام لحظة فارقة تتطلب منا كأساتذة و كعلماء اجتماع ألا نقف عند سطح الحدث، بل أن ننزل إلى جذوره الرمزية، ونرصد تحولاته اليومية، كما تتجلى في المعيش الجامعي. هنا تحضرنا سوسيولوجيا المتخيل، التي ترى في المؤسسة الجامعية خزانًا للصور، والتمثلات، والرموز العميقة التي تؤسس العلاقة بين الفرد والمعرفة، بين الذات والمستقبل، بين الهامش والمركز. فصورة الأستاذ الجامعي مثلًا، ليست فقط مهنة، بل تمثيل للمعرفة، للحكمة، للسلطة الرمزية التي تضع حاملها في موقع معنوي واجتماعي يفوق حدود الوظيفة. وكلما تشوهت هذه الصورة، كلما اهتزت معها منظومة من القيم التي تستند إليها شرعية الجامعة.

إلى جانب ذلك، تتيح لنا الإثنوميثودولوجيا الاقتراب من التفاصيل اليومية التي تصنع الجامعة فعلًا، بعيدًا عن الخطابات الجاهزة. فالجامعة ليست فقط قرارات فوقية أو مجالس إدارية أو مناصب، بل هي أيضا انتظار في ممر طويل، رسالة إلكترونية لم يُجب عنها، أستاذ يؤجل موعدا، طالب يحاول الدخول إلى منصة إلكترونية لا تعمل، موظف يستقبل العشرات بابتسامة رغم الضغط، لجنة علمية تجتمع في ظروف متوترة، كلية في فرع بعيد تحاول أن تستمر رغم غياب البنية التحتية. هي في جوهرها “عمل اجتماعي”، يتم إنتاجه كل يوم، بصبر وصمت، عبر تفاعلات دقيقة، وعمليات ترتيب خفية، ومفاوضات ضمنية بين الطلبة والأساتذة والإداريين. هذا العمل الاجتماعي لا يُرى عادة في النقاشات العمومية، ولا يُحتسب في التقييمات. ومع ذلك، فهو ما يجعل الجامعة ممكنة، ويمنحها القدرة على الاستمرار رغم الأعطاب. من هنا، فإن تبخيس الجامعة بناءً على حالات فردية معزولة، هو في الحقيقة تبخيس لتاريخ من العمل الصامت، ولأشكال متعددة من الالتزام غير المرئي، ولشبكات من المعنى تُبنى يوميًا دون ضجيج.

إنّ ما حدث في الآونة الأخيرة، وما رافقه من ضجة إعلامية، كشف بجلاء عن التوتر العميق بين المؤسسة الجامعية بوصفها نسقًا رمزيًا ينتج المعنى ويجسد الأمل، وبين واقعها الفعلي الذي يخضع لضغوط البيروقراطية، وقيود الموارد، وامتدادات المنطق السياسي. ففي الوقت الذي يُنتظر من الجامعة أن تلعب دور المحرك المجالي، ومُعادل الفوارق الطبقية، ومختبر التنمية، تُترك أحيانا لتواجه مصيرها بأدوات محدودة، وفي ظروف لا تليق بحجم الرهان الملقى على عاتقها.

ما يجب أن نفهمه، هو أن الجامعة – رغم أعطابها – ما تزال إلى اليوم تؤدي وظيفة رمزية قوية في مجتمع يعاني من انكسارات متكررة. إنها فضاء لإعادة صياغة الذات، وبناء الأفق، وتشكيل المعنى، خصوصا لدى الفئات التي لا تملك غير “الورقة الجامعية” سبيلاً للخروج من التهميش. فالطالب الذي يأتي من قرية نائية بطاطا أو زاگ أو بويزكارن، حين يدخل مدرجات جامعة ابن زهر، لا يدخل فقط فصلًا دراسيًا، بل يدخل عالمًا من الإمكانات، وعلاقة جديدة مع الذات ومع الآخر.

لذلك، فإن مسؤولية الدفاع عن الجامعة لا تتعلق فقط بالمؤسسة كهيكل، بل بهذا النسيج الرمزي والمعنوي الذي يربط الناس بها. علينا أن نعيد الاعتبار لهؤلاء الأساتذة الذين يعملون بصمت، ويقضون ساعات في التنقل بين المراكز الجامعية، ويتكلفون بمرافقة الطلبة رغم غياب التحفيز. علينا أن نعترف بجهود الإداريين الذين يشتغلون بوسائل بسيطة، ويظلون صامدين في وجه الفوضى المؤسسية. علينا أن ننصت للطلبة، لا بوصفهم “مستفيدين”، بل بوصفهم شركاء في إعادة خلق المعنى داخل الجامعة، لأن الجامعة ليست مكانًا محايدًا.

إنها حلبة للصراع الرمزي، وساحة لتفاوض اجتماعي، ومنصة لتعبيرات متضاربة عن الذات والمجتمع والمستقبل. حين ننتقدها، علينا أن نميز بين النقد الذي يبني، والتبخيس الذي يهدم. بين فضح الممارسات الشاذة، وتحميل المؤسسة برمتها تبعات سلوكيات فردية. بين الرغبة في الإصلاح، والتورط في جلد الذات.

جامعة ابن زهر لا تحتاج إلى تبرير، بل إلى قراءة جديدة. قراءة تنصف الجهد الجماعي الذي جعل منها اليوم واحدة من أكبر المؤسسات الجامعية في إفريقيا. قراءة تفهم أن الامتداد الترابي ليس فقط مسألة جغرافية، بل تعبير عن مسؤولية ثقيلة، وعن التزام بالعدالة المعرفية. قراءة تعرف أن الهامش حين يصنع جامعته، فإنه يعيد ترتيب العلاقة مع الدولة، ويؤسس لرأسمال رمزي لا يقل قيمة عن أي رأسمال اقتصادي.

قد تكون الجامعة اليوم في أزمة، لكن هذه الأزمة ليست فقط إدارية أو أخلاقية. إنها أيضًا أزمة تمثلات. أزمة معنى. أزمة هوية. وكل أزمة من هذا النوع، يمكن أن تكون أيضًا لحظة الممكن، وفرصة لإعادة تأسيس العلاقة بين المجتمع ومؤسساته الرمزية. ما نحتاجه ليس فقط المساءلة، بل أيضًا التخيل. ليس فقط المحاسبة، بل كذلك الاعتراف. ليس فقط إصلاح الإدارة، بل إعادة بعث الحلم. لأن الجامعة، في نهاية المطاف، ليست جهازًا. إنها فعل جماعي مشحون بالأمل، وممارسة رمزية تستحق أن نرعاها، لا لأنها مثالية، بل لأنها ممكنة.

في قلب هذا النسيج الرمزي الذي تمثله الجامعة، يقف الأستاذ الجامعي بوصفه أحد أعمدتها الأكثر شحنا بالمعنى. فصورته في المخيال الجمعي المغربي تتجاوز حدود الوظيفة أو الدور المهني. إنه ليس مجرد ناقل للمعرفة أو مكوّن للأطر، بل هو في لاوعي المجتمع حامل للشرعية الرمزية، ووريث للمعلم التقليدي، وممثل للسلطة المعرفية التي كانت دائمًا تحظى بالاحترام، بل وبالرهبة أحيانًا. نعم، لطالما كان الأستاذ الجامعي في نظر المجتمع شخصًا “أعلى”؛ لا من حيث الوضعية الاجتماعية فحسب، بل من حيث رمزيته أيضا.

فهو الذي يتقن اللغة، ويمتلك الخطاب، ويُقدّر الكلمة، ويُنصت له. إنه حارس للمعنى، وصانع للشرعية، ومهندس للرؤى. لذلك، فإن المسّ بصورته لا يكون أبدا مسألة فردية. إنه مسّ بجهاز التمثلات نفسه. تشويه صورته، سواء من خلال اتهامات عشوائية أو تبخيس إعلامي، يضرب في العمق ثقة المجتمع في التعليم العالي، ويغذي خطابًا عدميًا يجد في تبخيس النخبة الجامعية وسيلة لتبرير الفشل الجماعي.

لكن في المقابل، لا يمكن أن نغفل عن التحولات التي طرأت على هذه الصورة. فقد بدأت مكانة الأستاذ الجامعي تتآكل تدريجيا، بفعل عوامل متعددة: تآكل الرأسمال الرمزي أمام زحف الرأسمال الإعلامي، احتقار النخبة لصالح “المؤثرين”، هشاشة الوضعية المادية، غياب الاعتراف، ضعف آليات الدعم المؤسساتي، وكثرة الاستهداف غير المنصف. كل ذلك ساهم في خلخلة المكانة، وتحويل صورة الأستاذ الجامعي من حامل للمعنى إلى موظف يواجه الضغوط الإدارية والبيروقراطية. غير أن الأستاذ الجامعي، في ظل هذه الظروف، ما زال يمثل نقطة مقاومة رمزية. وجوده داخل المدرج أو القاعة، وهو يشرح المفاهيم، أو يناقش أطروحات طلبته، أو يرافقهم في مشاريعهم، هو شكل من أشكال الاستمرارية التاريخية التي تقاوم المحو الرمزي. إنه يمارس فعله المعرفي وسط تعقيدات السياسة والبيروقراطية والفقر الرمزي، ويُعيد كل يوم بناء العلاقة بين المجتمع والمعرفة.

هنا تتقاطع سوسيولوجيا المتخيل مع الإثنوميثودولوجيا: الأولى تمنحنا القدرة على تفكيك الرموز والصور العميقة التي يحملها المجتمع عن الأستاذ، والثانية تسمح لنا بفهم كيف يُمارس الأستاذ دوره فعليًا، كيف “يصنع” سلطته داخل المدرج، كيف يُدبّر علاقته بالطلبة، كيف يتفاوض مع إدارة مترددة، ومع مجتمع أحيانًا غير عادل. نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار لصورة الأستاذ الجامعي، لا عبر حملات ترويجية عابرة، بل من خلال سياسة رمزية متكاملة، تعترف به كفاعل أساسي في المشروع المجتمعي، وتمنحه المساحة لكي يؤدي وظيفته لا كموظف عادي، بل كحامل لرسالة تربوية، فكرية، ومعرفية. لأن الجامعة، كما أسلفنا، لا تُبنى فقط بالمشاريع والمباني، بل تُبنى بالوجوه التي تسكنها، بالكلمات التي تُقال داخلها، بالإيماءات الصغيرة التي تُصنع في خفائها.

إن الدفاع عن الأستاذ الجامعي ليس دفاعًا عن فئة مهنية، بل هو دفاع عن الخيط الرفيع الذي يربط المجتمع بمستقبله. عن ذاك الإنسان الذي ينهض صباحًا ليُدَرّس مفهوما في نظرية اجتماعية، أو يُعيد صياغة سؤال فلسفي، أو يُرافق بحثًا في الصحة أو البيئة أو القانون، مؤمنًا – رغم كل شيء – أن المعرفة ما تزال تستحق أن تُنقل. ربما آن الأوان لكي نُعيد للجامعة مكانتها، وللأستاذ الجامعي اعتباره، وللأمل مساحة في النقاش العمومي. لأننا إن فقدنا الثقة في الجامعة، فقدنا القدرة على إعادة تخيل المستقبل.

*الدكتور محمد العماري، استاذ علم الاجتماع بكلية الاداب – جامعة ابن زهر 

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى