
سجين الزمن: تأملات من زنزانة بلا جدران
- حسن كرياط *//
ليس السجن جدرانًا، ولا القيد سلسلة تُثقل المعصم. بل هو فكرة، نظام، اختناقٌ بطيء في هواء العدالة الفاسد. هناك حيث يُقاس الحق بالميزان المائل، وحيث تتحول القوانين إلى أصداء واهنة تضيع في أروقة الصمت، يسكن سجين الزمن. لا أصفد يديه قيود معدنية، بل قرارٌ إداري بلا ملامح، بلا تفسير، بلا هوية سوى كونه سيفًا مُصلتًا على أحلامه.
كان ذنبه أنه تجرأ على المطالبة بحقه، كما لو أن العدالة ترفٌ يُمنح لا استحقاق يُنتزع. رفعت المحكمة صوتها لصالحه، لكن صوتها كان أشبه بصوت الريح في صحراء صماء، لا يُحرك إلا الغبار، ولا يترك إلا الخيبة. كل نداء للإنصاف كان يرتد كصدى في فضاءٍ من اللاجدوى، حتى غدا الزمن نفسه قيدًا يلتف حول عنقه، يمنعه من التقدم، يجره إلى الخلف مع كل إشراقة يومٍ جديد.
أيكون الإنسان سجين اختياره أم ضحية قوانين تكتبها يد لا تُرى؟ هل هذا الامتحان اختبارٌ للصبر، أم درسٌ في استيعاب قسوة العالم؟ إن السجن الحقيقي ليس ذاك الذي تُغلق عليه الأبواب، بل ذاك الذي يُغلق الأفق أمام عينيك، ويجعل الانتظار جحيمًا ممتدًا، والوقت سيافًا يُمعن في ذبح الأمل دون رحمة.
لكنه لم يستسلم، لم يسمح للزمن أن يبتلعه دون مقاومة. قاوم بالكتابة التي كانت نزفه، بالصوت الذي لم يُسمع، بالكؤوس التي تحترق كما يحترق من الداخل. وإن كان يعلم، في أعماقه، أن الظلم لا يرحل، بل يتلبس ضحاياه كما العشق المستبد الذي يأبى أن يودع قلبًا اعتاده.
ولكن، أيتها الزنزانة اللا مرئية، ها أنا أطلق سراحك، كما يُطلَّق الحزن، وكما يُباع الوهم في أسواق السراب. وإن كنتِ ستعودين، كما يعود الليل كل مساء، فلن تجدي فيّ ذاك السجين الذي تركته… بل رجلًا أدرك أن بعض المعارك لا تُربح بالخلاص، بل بالتمرّد على معنى السجن ذاته.
*حسن كرياط : باحث في الإعلام

تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News