الثقافةالرأي

سجلماسة تنبض من تحت الانقاض: اكتشافات أثرية تعيد كتابة بدايات الإسلام والتجارة في الغرب الإسلامي

  • الحسين بوالزيت* //

في قلب الجنوب الشرقي المغربي، وتحديدًا في موقع سجلماسة التاريخي بالقرب من مدينة الريصاني بجهة درعة تافيلالت، عاد التاريخ ليبوح بأسراره، بعد قرون من الصمت. فقد توصل فريق علمي مغربي خلال عامي 2024 و2025، في إطار أكبر عملية تنقيب أثري شهدها الموقع حتى اليوم، إلى مجموعة من الاكتشافات النوعية التي لا تعيد فقط إحياء ماضٍ مجيد، بل تفتح أبوابًا جديدة لإعادة كتابة بدايات الإسلام، والاقتصاد، والعمران في الغرب الإسلامي.
العنوان البارز لهذا الاكتشاف،2620 متر مربع من النور الأول: أقدم مسجد بالمغرب.

في مقدمة هذه الاكتشافات المذهلة، برز اكتشاف ما يُعتقد أنه أقدم مسجد معروف حتى الآن في المغرب، يمتد على مساحة 2620 متر مربع. لا تكمن أهمية هذا المعلم في حجمه فقط، بل في تأريخه الزمني الدقيق، الذي يعود إلى بدايات الإسلام بالمغرب، أي إلى لحظة انتقال الدعوة الإسلامية إلى الضفة الغربية من العالم الإسلامي، حيث تداخلت الجغرافيا بالرسالة، والطين بالمعنى.

يمثل هذا المسجد، بمعماره وتنظيمه الداخلي، شاهدًا حيًا على بدايات التمدن الإسلامي في سجلماسة، ويعكس مراحل تشكّل النسيج العمراني والديني في واحدة من أقدم الحواضر الصحراوية التي حملت على عاتقها مهام التواصل الديني والتجاري والثقافي بين المغرب وعمقه الإفريقي.
من خزف وذهب: أول دليل مادي لصك الدينار السجلماسي
من بين الكنوز التي انتشلتها يد الباحثين من تحت الانقاض، يبرز قالب خزفي يحتوي على آثار من الذهب، تَبيَّن أنه كان يُستخدم لصك الدينار الذهبي في سجلماسة.

وهذا الاكتشاف، الذي يُعد الأول من نوعه، يمنح بعدًا ماديًا لما كان يُروى في المصادر التاريخية عن سك العملة بهذه المدينة في الفترة المدرارية (القرنين 8 و10 ميلادي). الدينار السجلماسي لم يكن مجرد عملة، بل كان رمزًا لسيادة سياسية واقتصادية، وإشارة واضحة إلى ازدهار حضارة استطاعت، في قلب الصحراء، أن تبني مركزًا ماليًا وتجارياً عابرًا للحدود.

الفن الإسلامي في سجلماسة: أناقة البدايات
لم تقتصر الاكتشافات على البعد الديني والاقتصادي، بل شملت أيضًا مجموعة من الكنوز الفنية التي تنتمي إلى الفن الإسلامي المبكر، تجسّدها زخارف معمارية، قطع خزفية، ونقوش تحمل الطابع الجمالي المميّز للمرحلة المدرارية. وهي شهادة فنية بليغة على مستوى الذوق الجمالي والمهارة الحرفية في مدينة لم تكن فقط محطة تجارية، بل مختبرًا حضاريًا لعبور أنماط فنية وثقافية من المشرق إلى المغرب ومنه إلى العمق الإفريقي.

حي سكني من العصر العلوي: استمرارية التاريخ في المكان
كذلك، كشف فريق التنقيب عن حي سكني كامل يعود إلى العهد العلوي، وهو ما يدل على الاستمرارية الحضارية لسجلماسة، التي لم تُهجر بالكامل، بل واصلت أداء دورها الحيوي حتى بعد تراجع بريقها السياسي. ويعزز هذا الاكتشاف فرضية أن سجلماسة لم تكن فقط مهدًا للدولة المدرارية، بل كانت أيضًا منطلقًا لولادة الدولة العلوية الشريفة، التي ربطت مشروعها السياسي والروحي بجذورها الجنوبية الصحراوية.

سجلماسة: من الهامش الجغرافي إلى قلب التاريخ
إن هذه الاكتشافات تُعيد الاعتبار لموقع سجلماسة بوصفه أولى الحواضر الإسلامية في الغرب، مدينة تأسست في أواخر القرن الثامن الميلادي عند نقطة تقاطع استراتيجية بين المغرب وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء. وقد لعبت دورًا محوريًا في تجارة الذهب، وتبادلات القوافل، وفي بناء شبكة اقتصادية وثقافية عابرة للصحراء.

وما يميز سجلماسة، هو أنها لم تكن مجرد مركز عبور، بل كانت نقطة إنتاج، ونقطة قرار، ومكانًا لبناء تصور مغاربي مستقل عن مراكز الخلافة الشرقية. وفي زمن يعاد فيه طرح مفهوم المركز والهامش، تخرج سجلماسة من الهامش الجغرافي لتحتل مجددًا مركزًا معرفيًا وتاريخيًا بفضل العلم والتنقيب، لا بالأسطورة والانبهار.

خاتمة: التاريخ لا يموت بل ينام

تكشف هذه الحملة الأثرية، وما أسفرت عنه من نتائج، أن التاريخ لا يُدفن، بل ينام في انتظار من يُوقظه. وسجلماسة، التي طالما أُهملت إعلاميًا ومؤسساتيًا، تعود اليوم لتُذكرنا بأن جذور الدولة المغربية، مثلها مثل جذور الحضارات، لا تنبت في العواصم فقط، بل في الرمال أيضًا. وفي سجلماسة، لا تزال الرمال تحفظ ذهبها… في ذاكرة الأرض.
اقترحه عليكم صديقكم، الحسين بوالزيت، صحافي وباحث في التاريخ.

  • * الحسن بو الزيت ، صحافي ، وباحث في التاريه
  • سلا، في 25 يوليوز 2025
          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى