ريم شطيح*: سوريا وضرورة الحراك..
تقف سوريا عند مفترق طرق حرج ومستقبلها معلق في الميزان مع خروجها من أكثر من عقد من الحرب والدمار والشلل السياسي. رحل الأسد مخلّفاً وراءه دماراً في النفوس وعلى الأرض وتحت الأرض، تاركاً ندوباً للنسيج الاجتماعي والنفسية الجماعية خلّفها القمع لنظامه، مع التآكل المنهجي للثقة بين المجتمعات، وخيبة الأمل الناتجة عن ذلك.
ومع بدء سوريا عملية التعافي الطويلة والمؤلمة، يتخلّلها صور متلاحقة في الذاكرة لآلاف المساجين المعذَّبين وفرح تحريرهم وإنهاء معاناتهم، ومع احتفال السوريين بانتهاء حقبة مضطربة وبدء عهد جديد، نشأت لدى كثيرين مخاوف جديدة وأسئلة تنتظر أجوبة وتطمينات؛ هل مستقبل البلاد مهدد بسبب صعود الجماعات ذات الإيديولوجيات الجهادية الإسلامية التي يلقي وجودها بظلال طويلة على آمال المجتمع السلمي والتعددي؟ أم أنه من المبكر الحكم على مستقبل سوريا الآن؟
في أعقاب حكم الأسد العنيف والاستبدادي، تواجه سوريا تحولاً مهماً مع ملء جماعات المعارضة للفراغ في السلطة يرأسهم الجولاني من هيئة تحرير الشام المصنفة على لوائح الإرهاب، مع شعور الفرح والنصر؛ يشعر كثيرون بالقلق إزاء الاتجاه الإيديولوجي الذي قد يشكل مستقبل سوريا. ولا يشكل هذا التحول المحتمل نحو التشدد الإسلامي خطراً سياسياً فحسب، بل إنه خطر وجودي لمستقبل سوريا كمجتمع متنوع.
بالنسبة للسوريين، وخاصة أولئك الذين حلموا ذات يوم بدولة ديمقراطية شاملة، فإن هذا الواقع الجديد مفرح بزوال النظام الذي عمل على استنقاع وتجميد العمل المدني والحراك الثقافي، ومقلق بذات الوقت حيث يلوح خطر أسلمة سوريا في الأفق معه احتمالات مستقبل يتجاهل التنوع الثقافي والديني الغني في البلاد. كانت سوريا دائماً مفترق طرق للحضارات، وموطناً لمجموعة من الأعراق والأديان التي تعايشت لقرون من الزمان، ولا نريد كسوريين أن يصبح هذا الإرث من التعددية تحت التهديد. وفي حين أن مجموعات مثل هيئة تحرير الشام قد تشكل تحدياً، فإن المشهد السياسي لا يزال متقلباً ومن السابق لأوانه استخلاص استنتاجات حاسمة حول الاتجاه المستقبلي لسوريا.
في إشارة إلى الدور المتغير لهيئة تحرير الشام والجولاني، لقد شهدت هيئة تحرير الشام، بقيادة الجولاني، تحولات أيديولوجية وسياسية كبيرة في السنوات الأخيرة، وقد يشير هذا النهج الپراجماتي إلى أن هيئة تحرير الشام قد تعطي الأولوية لتأمين موقعها في سوريا بدلاً من الدفع نحو أسلمة البلاد بأكملها، مع هذا، فهي تحت المجهر العالمي ورصد سلوكها مع المكونات المتنوعة. هناك سبب آخر يجعل من السابق لأوانه الحكم على مستقبل سوريا وهو التنوع المهم داخل المعارضة السورية وضمن المجتمع السوري، بما في ذلك القوميون العلمانيون، والإسلاميون المعتدلون، والقوات الكردية، وغيرها من الجماعات العرقية والدينية، فلطالما دافعت هذه الفصائل عن سوريا علمانية وديمقراطية وشاملة.
في هذه المرحلة، يتعين على الشعب السوري أن يتّحد لتأكيد رؤيته لمستقبل البلاد، وهي الرؤية التي تتجاوز تطرف الأسد سابقاً والفصائل الجهادية. وما تحتاج إليه سوريا اليوم على وجه السرعة ليس مجرد تغيير في القيادة، بل حركة ثقافية وسياسية عميقة تجسد تطلعات مواطنيها إلى مجتمع عادل وعلماني وشامل. وهذه ليست مجرد دعوة للإصلاح؛ بل إنها مطلب لهوية سورية جديدة، هوية تحترم تنوع شعبها وتضمن الحقوق الأساسية لجميع المواطنين بغض النظر عن عرقهم أو دينهم.
يتعين على السوريين أن يظلوا يقظين ضد صعود الإسلاموية، وفي حال ظهرت أي علامات على الأسلمة أو فرض أجندة ثيوقراطية، يجب أن يكون السوريون مستعدين للتعبئة واستعادة الحراك؛ أنْ يتحدوا للمطالبة بإنشاء دولة مدنية علمانية تقدّر الحرية وحقوق الإنسان والعدالة. ويتعين على المجتمع المدني، وخاصة المنظمات غير الحكومية والمثقفين وقادة المجتمع من نُخَب وتنويريين، أن يتحملوا مسؤولية تعزيز الحوار والتعليم، ورفع مستوى الوعي بضرورة الانخراط في الحراك وعملية التغيير لرفض فكرة مفادها أن مستقبل سوريا يمكن أن تحدده الأيديولوجية الضيقة لأي مجموعة واحدة، سواء كانت نهج النظام السابق أو الفصائل الجهادية. إن الدعوة إلى دولة عَلمانية ليست هجوماً على الدين، بل هي دفاع عن تقاليد التفاهم والتعايش التي ورثتها سوريا منذ أمد بعيد وتحقيقاً للعدل والمساواة.
علاوة على ذلك، فإن المجتمع الدولي لديه دور يلعبه، يجب أن يدعم السوريين في سعيهم إلى مستقبل ديمقراطي وعَلماني، ومحاسبة أولئك الذين يواصلون تقويض النسيج الاجتماعي والسياسي في سوريا. هذه ليست مسألة تدخل، بل دعم أخلاقي وسياسي لحق الشعب السوري في تقرير مصيره. فلا يريد السوريون شكلاً آخر من أشكال الطغيان؛ لا يريدون ديكتاتورية أخرى. إن التجربة الدينية أثبتت وتثبت فشلها كل يوم وهي الجحيم الذي لا يقل عن جحيم الديكتاتوريات السياسية. المطلوب دولة عَلمانية ديمقراطية ترفع راية الوطن وليس راية الدين. الدين موجود في أماكن العبادة وليس في الدساتير، وليس في الأعلام، وليس في سياسات الدولة.
إننا نريد ونأمل أن فصائل المعارضة هذه تريد إعادة بناء دولة علمانية تحترم تنوّع شعبنا وتكون فيها سوريا للسوريين، وعليه، فسنعمل معاً جميعاً من أجل هذا جنباً إلى جنب. أما إذا كان الهدف أسلمة البلاد، فستضطرون الشعب لثورة جديدة والمواجهة للدفاع عن الهوية التعددية لسوريا، وسيبدأ حراك جديد لاستعادة سوريا وأبنائها تتحالف فيه ليس فقط القوى العلمانية، بل وأيضاً المسلمين المعتدلين الذين يرفضون التطرف ويريدون الحفاظ على وحدة سوريا.
الثورة تنتهي عندما يتحقق الأمن والازدهار الثقافي والاقتصادي وكتابة دستور يحقق الحريات ويحترم جميع المكونات وطقوسهم ونمط حياتهم. في سوريا مسلمون ومسيحيون واسماعيليون ودروز وإيزيديون وكرد وأرمن وشركس وتركمان ومن كل المكونات يرفضون قيام دولة دينية، وسيخرجون للمواجهة لتحديد مصيرهم الثقافي والسياسي والهوياتي.
في مواجهة الشدائد، يجب على السوريين أن يظلوا ثابتين في التزامهم بمستقبل سلمي وشامل. قد يكون الطريق أمام السوريين صعباً، والتحديات هائلة، لكن بقاء روح سوريا – تراثها الثقافي الغني، وتعدديتها، ورؤيتها لمجتمع مدني علماني – يعتمد عليها. لن يتشكل مستقبل سوريا بأهواء أي رجل أو مجموعة، بل بالإرادة الجماعية لشعبها العازم على إعادة بناء بلد يحترم الحرية والكرامة وحقوق جميع مواطنيه. ربما من السذاجة التفاؤل الكامل، ولكن أيضاً من الغباء الاستسلام للمخاوف وعدم فعل شيء؛ الآن هو وقت العمل.
*ريم شطيح – كاتبة وباحثة سورية، وأستاذة جامعية لعلم النفس في أكثر من جامعة أمريكية.
*مقال منشور على موقع إيلاف ، إعادة نشره بالاتفاق مع الزميلة ريم شطيح.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News