رعاة الروحانيات: تجارة المناسك وسوق النخاسة بين المقدس والمدنس
- بقلم: امحمد القاضي //
للروحانيات مكانة في نفوسنا يصعب أن تملأها سخاوة دروب الحياة. للمرأ عطش للخلوة، عشق الإبتعاد عن الملذات ولو لحين غرة، وامل في فترة زهد، وفرصة تقرب للخالق وتعبد في طمأنينة للتأمل في أسرار الخلق وطبيعة الفناء. لنا جميعا رغبة جامحة للهروب من بطش الإنسان، من فوضى الحواضر وضجيج المدن، ورتابة الحياة الروتينية.
أماكن قليلة تلبي هذا الطلب الملح في دواخلنا وتوفر علاج النفس والخواطر، كثير منا من يجد السكينة في أماكن العبادة والصلاة. البعض الآخر يلجأ للخمارات والملاهي الليلية، ومنا من يرضى بفسحة قصيرة في القراءة، أو السفر والإنزواء في القرى النائية، أو أعالي الجبال. للناس فيما يعشقون مذاهب، ويبقى جيل لا يملأ ضمأه سوى السعي للتبرك في الأماكن المقدسة. وفي المقابل هناك من يتصيد بضربة قناص هذا الشغف ويستغل الفرص بدون رحمة.
هنا تدخل على الخط وكالات الأسفار بتقديم رحلات لأداء مناسك العمرة بجولات وأسعار تتزايد سنة بعد أخرى وتتضاءل الخدمات في كل حين.
من المفروض أن يكون لرحلات الأماكن المقدسة معاملة خاصة، وأسعار تفضيلية وتنافسية وخدمات مشجعة تبعث الطمأنينة والراحة للمعتمر.
للأسف، الإستعداد لأداء المناسك أصبح مغامرة، رحلة نحو المجهول تشوبها الحيطة والحذر والخوف من شمتة العمر، وتجربة مرة تفسد النية وتقلق مضاجع المسافر.
فمنذ البداية نجد بعض الوكالات يبيعون الوهم، ويرسمون الحلم بالألوان للزبون، ويعدون بزيارة مريحة وبمرشدين متمرسين وخدمات ومزارات يقتص منها الكثير عند الوصول. والأفضع أن منهم من جمع مال الحجاج وفر خارج الوطن.
العمرة عمرات: عمرة رمضان، عمرة ليلة القدر، عمرة المولد، زيارة بين الأعياد. ولكل زيارة سعرها. تجارة التعبد أضحت أغلى من رحلات الإستجمام في أبعد نقطة على الأرض. أسعار العمرة والحج تضاعفت في السنوات الأخيرة عدة مرات، ولم تعد الطبقة الوسطى تستطيع لها سبيلا.
الرحلة نحو أداء المشاعر أصبحت تقربنا من إفلاس في الأخلاق وتبعد الناس من تعاليم الخالق. في الماضي الغير بعيد، حين كان السفر للأراضي المقدسة شأن عبادة، رحلة للخلوة الدينية، يلتجأ إليها أصحاب القلوب الخاشعة والنفوس المطمئنة، ويأطرها عدد معلوم من الوكالات بأثمان في المتناول وخدمات بسيطة ومعقولة؛ أضحت اليوم موضة، خدمة سياحية للنزهة، محج المتباهين، رحلة إستجمام للمجموعات الأسرية، ووجهة للتبضع.
الإستغلال مرتين: في الداخل والخارج. هنا يقع فيه المسافر الورع ضحية تسويق لرحلة العمر، وبيع لسكوك الغفران، وترويج لسياحة 5 نجوم، والأكل البيفي الممتد على الطاولات فيها ما تشتهي الأنفس من النعم، و”الأول إنكليزف” all inclusive طيلة اليوم، جنة الطعام في الأراضي المقدسة المخصصة للتعبد والزهد. يقابلك صاحب الوكالة بكلام المروجين: “رحلة وحدة ف العمر، برع راسك، جيتي حتى الحج، أو كتحاسب مع الله.” وتسقط طعمة صائغة في شباك الجشع الوكالاتي.
هناك أصبحت مكة بناطحات سحابها التي لا تمطر على منوال المدن الأمريكية العملاقة، كي لا نقع في التسمية والتشبيه، وبمولاتها ومحلاتها التجارية الضخمة والأضواء الكاشفة التي لا تنطفئ ليل نهار كشوارع العواصم الغربية الخاصة للنزهة والتخفيضات المغرية. هناك يقع المعتمر في فخ المجتمع الإستهلاكي، يطوف على المحلات أكثر ما يطوف حول الكعبة، يحج بالتبضع أزيد مما يحج بالتعبد. فقدت الأماكن المقدسة، صورة البساطة حيث يستوي الغني والفقير، وحلت البنايات الشاهقة محل الأماكن التاريخية لبداية الإسلام، وغاب الثراث الديني والموروث الثقافي والمثاحف المؤرخة لحقبة قلبت تاريخ البشرية.
المغزى من الزيارة أن يستوي الغني والفقير، أن تلف على جسدك العاري قماش أبيض، أشبه بالكفن، وتعود لأدميتك ولو للحظات معدودة تستشعر فيها أنك لاشيء أمام عظمة الخالق، تقهر نزواتك والنفس الأمارة بالسوء. زيارة المقام في آخر المطاف سخاء، إحترام، تهديب للأخلاق، زهد وترفع على الماديات وعيش النذرة، فرصة لإستعادة ماضاع منا من إنسانيتنا الحنونة، من أدميتنا الشاملة من تواضعنا وقيمنا النبيلة.
كان لحج بيت الله معنى على بساطته في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي وما فوق، أضحى اليوم عند الغالبية سفر للنزهة، والمنظمين فرصة للإغتناء، والمعذبين في المحنة تجربة للمغفرة.
هناك خط رفيع بين المقدس والمدنس. فور نزول ضيوف الرحمان على أرض الحجاز تبدأ المعانات، يستشعرهم المضيفين بصغر شأنهم أمام أحفاد قريش. بالتدافع مرة، بالتجاهل مرات، بطلب البقشيش الزائد، بالأسعار الغالية، بالخدمات السيئة، بقلة التواصل، بالمعاملة السيئة، ومظاهر إستغلال العمال المنحدرين من البلدان الفقيرة المجاورة. ومؤخرا، رصدت كاميرة هاتف حاج عسكري يصفع مسن: “حسبي الله ونعم الوكيل”، كان رد الرجل المعمر. وكم من ميكروفونات المواقع سجلت إستياء وإستنكار وخيبة أمل العائدين من أداء المناسك؟
حتى صدقنا أننا قطعنا مع عصر تجارة الرقيق، وإستعباد البشر، ونالت الكرامة الإنسانية حضها بين المشاعر، لتطل علينا مظاهر الكفالة والإستغلال من كل جانب. فكم من مهاجر مغربي بالخليج عاد بتقاعد مريح، وإمتيازات مغرية، وإقامة وجنسية البلد المضيف ونال تغطية صحية وخدمات إجتماعية أقته شر تقلب الدهر؟ أثرك لكم الجواب، والمقارنة مع مغاربة العالم العائدون من الدول الغربية الأخرى. تا الله لا شماتة ،وسامح الله من كان السبب.
هناك رعاة الماعز، كما فضح الفيلم الهندي الجديد نظام الكفيل الريعي المتستر على عبودية الأجانب العاملين في بلاد إسلام القرن الحديث، ورعاة الروحانيات والطقوس المستغلين للراغبين في أداء مناسك العمرة والطامحين في نيل الأجر والمغفرة. هناك سوق النخاسة، بورصة البشرية المقنعة.
في شأن آخر، يعتبر مكان تجمع أصناف البشرية إمتحان للشعوب، ومسرح لعرض مكتسبات الإنسان، ملتقى دولي تطفو فيه مكارم أخلاق الأمم ومحاسن تربية المواطن وأدمية المخلوق، ويظهر عيب الدول التي لم تستثمر في بناء الإنسان ويفتضح المستور من حيوانية السلوك والفساد الأخلاقي والمالي أمام أعين زوار من بقاع العالم. يخجل مسلمي الدول العربية من نتاج تربيتهم وغوغائيتهم، ويعتز مسلمي البلدان الأسيوية، الغير الناطقين بلغة الضاد، بحسن سلوكهم ونجاح أنظمتهم السياسية ورقي تعليمهم وإختياراتهم الإقتصادية. وعند الإمتحان يعز المرأ أو يهان.
لكل القلوب الطاغية، قناصي فرص المناسك في الداخل والخارج نقول: أسأتم الأدب، على الله وما وهب.
تابعوا آخر الأخبار من أكادير اليوم على Google News