الرأيالمغرب اليوم

ذاكرة الملح والريح..

ظكنت في السابعة من عمري حين بدأ كل شيء. لم يكن في يدي غير عصا، ولا على ظهري سوى ظلال الجبال وعبء الطفولة. كنت راعيًا صغيرًا بين ربى ميرلفت وتلال أفتاس، في أرض تهمس فيها الطبيعة بلغتها الخاصة، بحرٌ لا يسكت، وريح لا تتعب، وسماء تتبدّل مثل مزاج الجدات.

في تلك الربوع، حيث تلتقي الشمس بالماء، تعلمت كيف يحمي الصوف الجلد من لهيب النهار وقسوة المساء. نلبس “الجلباب” و”البرنوس” المصنوع من صوف الغنم، منسوجًا ببطء في أنوال الأمهات والجدات المجدات، يقي الجسد كما تقي الكلمة وجه الرجل. كنت أراقب الرجال يلفّون رؤوسهم بـ”اللثام”، ويشدون على خصورهم بـ”أفراك” منسوج من صوف سلالة غنم اندثرت اليوم، يمشون وكأنهم يحملون قرونًا من الكرامة في خطواتهم.

جدي، المغامر الذي لا تهدأ خطاه، كان يقول إن الجسد الذي لا يحترق بالشمس، ولا يعرف برد الليل. علّمني أن الطبيعة لا تمنحك أسرارها إلا إذا أنصتّ للصمت، وأطفأت ضجيجك الداخلي. كان يحكي لي عن رجال من الجنوب واجهوا الإسبان ببنادق صدئة وقلوب مشتعلة، وعن نساء خبّأن الرصاص في طيّات “أحايك”.

أما أبي، فكان تاجرًا يعرف الطريق كما يعرف قلبه. يسير على ظهر بغلته بين الصويرة وأكادير، مرورًا بتيزنيت وميرلفت، يحمل في سلال من الحلفاء كل شيء: أكياس الملح، الشاي، الزيت، بيض الدجاج، والدواجن المكتومة الصراخ. في قفف مضفورة بعناية من يد صانع شديد، وُضعت الزيوت المباركة: زيت الزيتون، وزيت الأركان، الذي كنّا نأكله صباحًا مع الخبز الساخن ورشّة من “الزعتر البري” أو “إكليل الجبل”.

وفي جيب أبي دائمًا أعشاب مجففة: “ازير”، و”الشيح”، و”النعناع الجبلي”، تُغلى مع الشاي أو تُستخدم للصداع والسعال. لم نكن نعرف الصيدليات، لكننا عرفنا أسماء الجبال والدواء الذي ينبت على جنباتها.

على طول الطريق، كانت هناك “أكورات” — محطات استراحة من جريد، أو ظل صخرة، أو بيت طيني صغير يعرفه التجار. هناك يُشرب الشاي ويُناقش حال السوق والبلاد، التي كانت ممزقة بين استعمارين: آيت باعمران في حضن الإسبان، وتيزنيت والساحل في قبضة الفرنسيين.

وفي الصويرة، لم تكن الريح وحدها من يلفت الانتباه، بل نساؤها كذلك. كنّ متأنّقات بلا تكلّف، يلبسن “السلهام” و”الجلابة” الحريرية، ويضعن الحليّ الفضية والذهبية حول المعصم والعنق، زينة مشغولة كأنها خارطة مجد قديم. شعرهن المصقول بالزيت، وضحكتهن الواثقة، كانت كفيلة بأن تربك رجلاً عركته الطرقات.

أما في تيزنيت، فالنساء كنّ أنيقات بطريقتهن الخاصة، أجسادهن مخفية تحت “أفاكو” و”أحايك” الثقيل، لكن خطواتهن المطمئنة كانت تقول ما لا تفصح عنه الملابس. وبين الغبش والوضوح، كنت أسترق النظر إلى أساورهن الفضية، وحجول الخلخال، وصوت النقود الصغيرة وهي ترنّ كلما تحركن.

أما الرجال، ففي الأعراس والمواسم، كانوا يتحوّلون إلى أعمدة من نار. يرقصون جماعيًا في “أحواش” و”أهياض”، يرتجّون مع الطبل، يلوّحون بالسلاح، وتُسمع زغاريد النساء كأنها صدى للجبال. الفحولة لم تكن مظهرًا، بل إيقاعًا. من لا يعرف الرقص لا يعرف كيف يحمل بندقيته في الفجر، هكذا كان يقول أبي.

وفي إحدى تلك الأكورات، قرب سيدي واساي، التقيت رجلاً يغني أغنية حزينة عن حبّ فُقد تحت ظل بندقية. سألته لماذا يغني وحده، فقال:

“لأُبقي روحي حيّة… ما لم تأخذه فرنسا أو إسبانيا، لن تأخذه الصمت.”

قال أبي وهو يصب الشاي في كؤوس زجاجية دقيقة:

“ذاك صوته الذي لم يُحتل.”

ومع مرور السنين، كنت أراقب وجوه الرجال وهي تتعب، أسمع أنين الطريق من خطوات البغال، وأشمّ رائحة الدخان الممزوج بالزعتر. أدركت أن الذاكرة ليست كلمات تُقال، بل خطوات تُحفر في الأرض، ورائحة زيت أركان تُشبه طفولتي.

واليوم، حين أمرّ من تلك الدروب القديمة، بين تفنيت وأمسوان، بين الصويرة وتيزنيت، أشعر أنني أمشي في داخلي. ما كان طفولةً في نظر الغريب، كان في الحقيقة نحتًا لهويتي على صخرة الجنوب. وكل خطوة كانت شهادة ميلاد جديدة لطفل لا يزال يمشي، رغم تعب الزمن… على درب الملح والريح.

أيها القارئ، ايتها القارئة، لست انا من يتحدث، بل انا من كتب، على لسان راوي معروف مجهول.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى