الثقافة

حين يرتقي الاختلاف: قراءة في رسالتين تكشفان عن جوهر النموذج المغربي

  • بقلم  عدنان نجمي//

حين نقرأ الرسالتين المتبادلتين بين أحمد التوفيق وعبد الإله ابن كيران، نرى أمامنا نقاشاً يحمل أبعاداً تتجاوز مجرد الخلاف الظاهر إلى أعماق فلسفية وثقافية تعكس طبيعة الإشكال المغربي الراهن. إنه نقاش يتأرجح بين محاولة تأصيل الهوية وإدراك التحولات الجذرية التي يشهدها العالم، وبين الحفاظ على الخصوصية والانفتاح على القيم الكونية. الرسالتان ليستا فقط انعكاساً لموقفين فكريين مختلفين، بل هما تجسيد للجدل الذي ظل يرافق المغرب منذ أن وطأت أقدامه عتبة التحديث في زمن الاستعمار وما تلاه.

في رسالة أحمد التوفيق، يظهر خطاب يفيض بعمق تاريخي وفلسفي. التوفيق، وهو رجل عرف بالاستبصار والتحليل الهادئ، يعيد صياغة النقاش حول مفهوم العلمانية بجرأة فكرية، واضعاً إياه في سياقه التاريخي العالمي، دون أن يغفل خصوصية النموذج المغربي. إنه يذكرنا بأن العلمانية ليست مفهوماً واحداً مطلقاً، بل هي تجارب مختلفة، بعضها صدامي كالنموذج الفرنسي، وبعضها مرن كالتجارب الغربية الأخرى التي تراعي حاجات الإنسان الروحية. من خلال هذا التأطير، يدعو التوفيق إلى فهم يتجاوز القوالب الجامدة، حيث يبرز أن المغرب، بنموذجه المستند إلى إمارة المؤمنين، يقدم صيغة متفردة تمزج بين العقلانية الدنيوية وصيانة الدين.

أما رسالة ابن كيران، فرغم أنها أقل تنظيراً، فإنها لا تقل أهمية. ابن كيران، السياسي المتمرس الذي اعتاد مخاطبة الجمهور، يعبر بلغة عاطفية أكثر، لكنه يحمل في طيات كلماته إشارات فكرية عميقة. خطابه يركز على الدفاع عن الهوية المغربية في وجه ما يصفه بمحاولات التشويه أو الاستغلال الإيديولوجي. وفي الوقت نفسه، لا يخفي ابن كيران إدراكه لتعقيد الواقع المغربي، حيث يلمح إلى أن التحولات التي يعيشها المغرب لا يمكن فصلها عن سياق عالمي أكبر.

حين نقارن بين الرسالتين، يظهر بوضوح الاختلاف بين رجلين يمثلان مسارين فكريين مختلفين. التوفيق، الأكاديمي المثقف، ينطلق من رؤية تؤطر الدين ضمن منظومة تاريخية وفكرية واسعة. بينما ابن كيران، السياسي الجماهيري، يركز على الحاضر والمخاطر التي تهدد ثوابت المجتمع. ومع ذلك، فإن كلا الرجلين يتفقان ضمنياً على أهمية الحفاظ على التوازن في النموذج المغربي، بين التقاليد والانفتاح.

لكن الأهم من محتوى الرسالتين هو الأسلوب الذي اتسم بالاحترام والاعتراف بالآخر. في زمن أصبحت فيه النقاشات العمومية متشنجة ومفتقرة إلى العمق، تأتي هذه المراسلات لتعيد الأمل في إمكانية وجود حوار بناء ومتحضر، حتى بين المختلفين. ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن الجمهور المغربي غالباً ما يقع في فخ الاصطفاف السطحي، حيث تُقرأ هذه النقاشات بعيون متحيزة تبحث عن الانتصار لطرف دون آخر، دون التعمق في جوهر الخطاب.

المسألة التي تطرحها هاتان الرسالتان ليست مجرد خلاف حول مفهوم العلمانية أو حدود إمارة المؤمنين. بل هي سؤال أوسع عن كيفية صياغة هوية مغربية تتفاعل مع قيم العصر دون أن تفقد جذورها. إنها دعوة لكل من يريد فهم التحولات المغربية ألا يكتفي بالنظر إلى النتائج، بل أن يغوص في التاريخ والسياق الذي أنتجها.

إن المغرب، كما يظهر من هاتين الرسالتين، ليس بلداً يمكن اختزاله في ثنائيات بسيطة. إنه تجربة معقدة، تتشابك فيها الديني مع الدنيوي، والتقليدي مع الحديث. والتحدي الحقيقي الذي يواجهه ليس في حسم هذا التناقض، بل في إدارته بحكمة ومرونة، كما فعل على مر تاريخه.

الرسالتان، رغم اختلاف أسلوبيهما، تمثلان لحظة نادرة من الرقي في الحوار السياسي والفكري المغربي. ومن خلالهما، نجد دعوة صريحة إلى تجاوز النزاعات السطحية والارتقاء بالنقاش العمومي، حيث يكون الهدف هو البحث عن الحقيقة، وليس الانتصار على الآخر. هذا هو النموذج الذي نحتاج إليه اليوم، في زمن تتزايد فيه التحديات، وتصبح فيه الحاجة إلى الحوار أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى