الثقافة

حسن أوريد..والرواية التاريخية

  • محمد بكريم//

“التاريخ فن قبل أن يكون علما، ورواية قبل أن يكون مقالة تحليلية”.

عبد الله العروي

لقد شهدت الرواية التاريخية صعودًا ملحوظًا، وخاصة منذ العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وبعد أن عرفت سنوات مجدها في الماضي، بدأت شعبيتها تتهاوى تحت وطأة الحداثة التي سادت بنوع من “الغطرسة” المعرفية.

ولكن بعد المآسي والنكسات الهائلة التي ميزت النصف الثاني من القرن العشرين (نهاية اليوتوبيا، وموت “المستقبل”)، استعادت الرواية التاريخية زخمها مع تحول حقول الإنتاج الرمزي   إلى وضع ما بعد الحداثة. عملية إعادة تأهيل في أجواء عامة تعرف ازدهار «الرحلات” إلى الماضي.

إن الماضي على عكس نبوءة الروائي عبد الكريم غلاب، لم “يدفن”، فهو حاضر بيننا (على مستوى التعبيرات الاجتماعية: اللباس، الأكل…). يتم العودة إليه باستمرار: فالسرديات التذكارية تشغل شبكة الإنترنت (حوارات الصديق معنينو عرفت اقبالا كبيرا مثلا) مع تنافس مثير لذاكرات، أشير أيضًا إلى نجاح مجلة مخصصة للتاريخ (مجلة زمان). كيف نفهم ذلك؟

العودة إلى التاريخ كإجابة على تاريخانية غير مؤكدة، بل وحتى مأزومة. كان حسن أوريد قد رسم الأفق بالفعل برواية أخرى (هذا التقديم كتب بمناسبة صدور رواية الباشادور)، الموريسكي (بالفرنسية، اصدار 2017)، وهو نص جميل للغاية تناول فيه مأساة ستظل ترافق أعماله، وهي مأساة اقتلاع المسلمين الذين طردتهم محاكم التفتيش من الأندلس وتعرضوا للتهميش. منذ أن أصبحوا “منبوذين” في التاريخ…ورغم مكر الزمن يبقى الاندلسي “شخصية تاريخية” بحمولة حضارية إنسانية …ما يؤكده حسن أوريد في روايته الجديدة “الفقيه” عبر أحد رموزهذه التراجيديا المنسية، رواية الفقيه سيرة حياة لشهاب الدين أحمد بن قاسم الحَجْرِي (أو الحَجَرِي)، المعروف بـآفوقاي.

الرواية ترافقه منذ الطفولة الى مختلف المحطات المحورية في حياته خاصة مرحلة الاقتلاع من “ارض الأجداد” الى مراكش حيث سيصبح أحد وجوه الدبلوماسية المغربية. رواية تاريخية عن مأساة لها أصداء في مآسي الزمن الحاضر. نوع من الشهادة حول واجب التذكر: “ما نقوم به هو من أجل التاريخ، حتى لا يشعر أبناؤنا وأحفادنا بالخزي، ولكي يعلموا أننا خضنا عراكاً بطولياً كي لا نُرحّل من أرضنا، وأننا لم نقف مكتوفي الأيدي أمام الظلم. نريد أن نسلمهم المشعل”.

ولكن “الفقيه” عمل ابداعي أساسا تطرح مستويين من التلقي. مستوى الحكاية لها بداية (مشهد افتتاحي جميل جدا يحيل الى مشهد سينمائي) وتطور درامي ونهاية. ومستوى ثاني يتعلق بالكتابة خاصة أن الرواية تبدأ بتنبيه من المؤلف يحدد بأن الفقيه هي التوأم العربي لرواية “الموريسكي”.

تنبيه يثير نفاش شيق جدا حول اللغة والترجمة. يذكر حسن أوريد بأن هناك طبعة لترجمة عربية لرواية الموريسكي…ولكن رغبته كمؤلف دفعته ليس لإعادة الترجمة الأولية بل الى إعادة كتابة الرواية بالعربية.

الانتقال من نسق لغوي الى نسق بديل هو أكثر من عملية “تقنية”. الفقيه ليست ترجمة جديدة و”منقحة” لرواية “الموريسكي”.

نحن امام نص جديد له منطقه الداخلي استثمر فيه المؤلف كفاءة مزدوجة: كفاءة سردية – موسوعية (غناء المعطيات التاريخية) تنتج ما أسماه رولان  بارث “متعة النص” (نتابع بتشويق تتبع الأحداث: ماذا سيقع؟).

وكفاءة لغوية باذخة تنتج “لذة النص” تستدعي قارئ مثالي لا يتردد في “توقيف الصورة” كما يقال في السينما (arrêt sur image) أي توقيف تسلسل الأحداث من اجل التأمل في الغنى المعجمي الذي يحمل السرد. تعاضد تأويلي بين المبدع والقارء يؤسس لعقد قراءة مفتوح.

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى