الثقافة

“حروف من التاريخ” — ليست مجرد برنامج، بل مشروع حضاري بثقل معرفي وإعلامي

يُعدّ برنامج حروف من التاريخ “إسكيلن ن ؤمزروي –” شرفة وثائقية وثقافية تُطلّ على الذاكرة المغربية العميقة، مستحضرة المحطات البارزة التي صاغت ملامح التاريخ الوطني، وأسهمت في بناء حضارة شمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط. ينطلق البرنامج من قناعة راسخة بمكانة المغرب كفاعل أساسي في الحراك الحضاري الإقليمي والدولي، عبر العصور التاريخية مستفيدًا من موقعه الجغرافي المتميز وثرائه الثقافي المتنوع، وشخصيته التاريخية الفريدة

يسعى البرنامج إلى تسليط الضوء على مراحل تاريخية مفصلية، وقضايا محورية كان لها بالغ الأثر في تطور المجتمع المغربي، من قبيل الأزمات الاقتصادية، الأوبئة والجوائح، والتحديات التي واجهها المغاربة على مر العصور بروح من التآزر والتضامن. كما يُعنى البرنامج بعرض علاقات المغرب التاريخية بمحيطه الخارجي من خلال موانئه ومراسيه التي كانت معابر للتواصل والتبادل.

ويولي البرنامج اهتمامًا خاصًا بالمدن التاريخية، سواء تلك التي اندثرت أو التي ما تزال قائمة، إذ تشكّل هذه المدن خزائن حية للذاكرة الوطنية، وتوثق مراحل من التفاعل الحضاري والأنثروبولوجي، في جوانبه الدينية، واللغوية، والاجتماعية. كما ينفتح البرنامج على دراسة الطوبونيميا (أسماء الأماكن) والأنثروبولوجيا الثقافية باعتبارهما مدخلين لفهم التحولات التي شهدها المجتمع المغربي في امتداداته الجغرافية والثقافية.

وفي هذا السياق، يحظى الأرشيف الوطني –سواء داخل المغرب أو خارجه– باهتمام خاص، لما له من دور في إماطة اللثام عن جوانب متعددة من تاريخ المملكة، وإعادة قراءته في ضوء معطيات علمية دقيقة ومعاصرة.

البرنامج يستضيف نخبة من الباحثين وعلماء الآثار المرموقين، من بينهم الأستاذ الجامعي عبد الله فيلي، سعيد كويس، محمد مسكيت، احمد بومزكو، براهيم وزيد واخرون، كما سيستضيف نخبة من الأساتذة والباحثين في حلقاته في الموسم الثاني ومنه يوسف بوكبوط، أحمد السكونتي، احمد صابر، محمد حنداين إلى جانب أسماء أكاديمية وازنة ينتمي الى حقوق معرفية مختلفة تتقاطع مع علوم التاريخ والحضارة. هي أسماء اذن، عرفت بمساهمة علمية لافتة وقيمة تناولت مواقع أثرية مهمة مثل أغمات وجيل أكليز، وسجلماسة، الرصينة التي أغنت الخزانة الأركيولوجية المغربية ووسعت آفاق النقاش التاريخي حول تشكّل الدولة والمجتمع.

وليس من المبالغة القول إن برنامج “حروف من التاريخ” قد استطاع، في وقت وجيز، أن يفرض نفسه كأحد أنضج التجارب الوثائقية في الإعلام المغربي، من خلال تحقيقه نسب متابعة مهمة لدى الجمهور العريض، واهتمام متزايد من قبل النخبة الأكاديمية والثقافية، التي وجدت فيه فضاءً حقيقياً للنقاش العلمي، والتفكير التاريخي، واستعادة الذاكرة الجماعية المغربية.

إنها تجربة رائدة في مجال الإنتاج السمعي البصري الأمازيغي، تجربة كسرت الحواجز اللغوية والمعرفية، واقتحمت بشجاعة مجالات كان يُنظر إليها سابقًا على أنها حكر على لغات دون غيرها. لقد أثبت البرنامج أن اللغة الأمازيغية ليست فقط أداة للتواصل الهوياتي، بل لغة حية قادرة على أداء أدوارها كاملة في ميادين التثقيف، والإخبار، والتوثيق، والترفيه، تماماً كما هو الحال في باقي لغات العالم.

وهنا يحق لنا مقارنة تجربة قناة تمازيغت المغربية مع نظيراتها في بلدانٍ عرفت كيف توفق بين احترام التعدد الثقافي والإعلام المهني، مثل قناة APTN الكندية التي تقدم محتوى خاصًا بالشعوب، أو TV3 الكتالونية التي تخاطب جمهوراً واسعاً بلغة محلية لكن برسالة كونية، أو حتى التجارب الفلمنكية والوالونية في بلجيكا التي طورت إعلاماً عمومياً متعدّد اللغات والوظائف. ضمن هذا السياق، تبرز قناة تمازيغت كمؤسسة مغربية ذات هوية واضحة، وشبكة إنتاجية متكاملة تجمع بين الجودة والمهنية والتنوع الثقافي، وقادرة على منافسة نظيراتها العالمية بفضل ما تمتلكه من كفاءات وطاقات إعلامية وموضوعاتية.

يُذكر أن برنامج “حروف من التاريخ” يندرج ضمن شبكة برامجية مدروسة لقناة تمازيغت، التي تتميز بحرصها على المهنية، وتتوفر فيها كل عناصر الشبكة المتكاملة: من التخطيط البرامجي الذكي، إلى التنسيق التحريري، وصولاً إلى التصوير الميداني والمعالجة السمعية البصرية عالية الجودة.

“حروف من التاريخ” اليوم ليس مجرد مادة إعلامية أو حلقة وثائقية عابرة، بل دعوة حقيقية للتأمل، وللسفر عبر الزمن، وللغوص في عمق الذاكرة المغربية بكل تعددها وتنوعها وامتدادها الحضاري. إنه برنامج يزاوج بين الرؤية الأكاديمية وروح الإعلام العام وهو بذلك يفتح نوافذ مشرعة أمام العلماء والخبراء من مختلف التخصصات لطرح إسهاماتهم، والانخراط في نقاش عمومي جاد ومسؤول مع الجمهور. فـ”حروف من التاريخ” ليست فقط برنامجاً، بل مشروعاً معرفياً وثقافياً متكاملاً يلتزم، بإحياء الذاكرة، وترسيخ الوعي وفتح باب الحوار مع الزمن.

الحسين بوالزيت – صحافي وباحث في التاريخ

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى