الثقافة

 جماليات القبح في الرواية: أسفي في رواية “بهيجة وأخواتها”..

  •   بقلم الكبير الداديسي//

(إن التعبير الفني عن القبح يستدعي إدانته، وينبه ضمنيا إلى ما ينبغي أن يكون عليه الحال، فكأن عرض القبح تأكيد مباشر للجميل واحتجاج على ما في العالم من قبح)

فيساريون جيرجوريفتش بلنسكي

في إطار مقاربة تيمة “صورة مدينة أسفي في روايات كتاب المدينة تم الوقوف على عدد من الروايات منها:  روايتي ( خبز وسمك وحشيش) و(تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية) للروائي عبد الرحيم لحبيبي، ورواتي (سيرة صمت) و(تيغالين حلم العودة) للكاتب ياسين كني، ورواية (النادل والصحف) لعبد الرحمان الفايز، ورواية حسن رياض(أوراق عبرية)،  ورواية (درب كناوة) لأحمد أفار، رواية (أناس أعرفهم)  لمصطفى حاكا ، رواية (السيدة كركم) للكاتبة أسماء غريب، رواية (طريق الغرام) للروائية ربيعة ريحان، ورواية (عائد إلى بيّاضه) باكورة الروائي المغربي محمد خراز،  ومؤلف (السيد “س” ) للكاتب عبد  إكرامن، ورواية (ما تبقى من ذاكرة الرماد) للروائية فاطمة المعيزي… وغيرها من الروايات التي تجعل مدينة أسفي فضاء روائيا للأحداث.

وعلى نفس النهج نفتتح اليوم نافذة جديدة في نفس التيمة مع آخر رواية صادرة  لكاتب من هذه المدينة يتعلق الأمر برواية (بهيجة وأخواتها)  للكاتب النيني عبد الرحيم الدرويشي… والبحث عن  الصورة التي قدمت بها هذه الرواية مدينة آسفي لقرائها، وكيف شكل مخيال المؤلف فضاءات المدينة وعادات أهلها؟ وهل غرد سارد الرواية نفس اللحن أم غرد خارج سرب الرواة السابقين؟

لا بد في البداية من الإشارة إلى أن الرواية كبيرة الحجم  (320 صفحة) وحديثة  صدرت في طبعتها الأولى عن دار فضاءات للنشر والتوزيع سنة 2023، وهي آخر أعمال المُؤلف بعد عدد من الأعمال السابقة منها كتاب (متاعب كاتب كلمات) عن مؤسسة الديوان سنة 2013 ورواية (نهاية بحار) عن منشورات دار سليكي 2018 .

تبدو الرواية منذ سطورها الأولى أن فكرتها النواة متداولة، بتمحورها حول عودة بطل إلى مسقط رأسه، وما يمكن أن تولده تلك العودة من حنين ومقارنات ومفاجآت يمتزج فيها السِّيَري التاريخي بالروائي المتخيل… من خلال جولة هذا البطل بأحياء المدينة وتفاعله مع ساكنتها، ومقارنة حاضرها الذي يشاهده بماضيها في ذاكرته…

أول قراءة سريعة للمؤشرات لا تخيب أفق انتظار القارئ عندما يطالع عناوين فصول الرواية الاثنى عشر التي تحيل على بعض المرافق في المدينة كما في الفصل الأول والثاني (المحطة الطرقية / نزل إشبيلية )  وعلى  بعض أحيائها كما في فصول (السوق الخانز / سانية الجمرة/ حي الكورس/ قرية الذهب/  تراب الصيني/ طريق الجرف/  مغارة الأدهم/ يوم الاثنين (يحيل على السوق الأسبوعي الذي ينظم كل يوم اثنين))  أو بعض الشخصيات التي تفاعل معها البطل في الرواية (بهيجة وزينب/ أبو الشتاء) هذه هي عناوين فصول الرواية. لكن السارد كان حريصا أشد ما يكون الحرص على ذكر عدد كبير من الأزقة والدروب والعائلات والرجالات من أهل أسفي في مختلف تخصصات الحياة يعرفها أهل المدينة بالاسم والكنية ومنهم من لا زال على قيد الحياة…

اختار سارد أحداث رواية (بهيجة وأخواتها) أن تدور الأحداث في الأحياء المهمشة بعيدا عن الأحياء الراقية أو المدينة الجديدة، باستثناء بعض اللحظات التي تقود البطل لغرض معين. هكذا تمحورت معظم الأحداث في أحياء المدينة القديمة وحواف المدينة من الأحياء المهمشة في تلذذ بجماليات القبح…

الرواية ـــــ مثل معظم الروايات التي كتبت عن مدينة أسفي ـــــ تلامس قضايا متعددة منها التعايش بين المسلمين واليهود والنصارى بالمدينة،  وما يرتبط بالثقافة والعمران، والحكايات الشعبية والعادات والتقاليد في الطبخ والمناسبات والحفلات والأعراس وتفاعل أهل المدينة مع السينما، وعلاقة المدينة بالبحر وكرم أهلها، مع النوستالجيا والحنين إلى ماض مشرق، وبكاء على واقع مأساوي حالي للمدينة، وما يخلقه مرور كهل خمسيني بالأماكن التي عاش فيها طفولته من كتاتيب ومدارس وأزقة والتقائه بأصدقاء الطفولة… في سرد أقرب للتأريخ المحلي والحكي السيري… لكن ما يهمنا من كل ذلك هو  تلك الصورة التي تتكون لدى القارئ عن مدينة أسفي بعد انتهائه من قراءة رواية (بهيجة وأخواتها)، وإبراز جماليات القبح في تقديم المدينة.

تبتدئ الرواية ــــــــ التي لا تكشف عن هوية سارد أحداثها إذ تُحكى الأحداث بضمير الغائب، بلسان سارد يعرف كل شيء عن حياة البطل ويصاحبه في حلّه وترحاله وفي خلواته ــــــ  تبتدئ، بنزول البطل صالح، وهو في عقده الخامس، من الحافلة التي أقلته من فاس إلى أسفي مسقط رأسه، بكامل أناقته (نزل من بابها الخلفي رجل “ربعة” في عقده الخامس، نزل وهو يمسك بقبضة حقيبة سفره البنية اللون يلبس لباسا أسود بالكامل عبارة عن قلنسوة رفيعة، ومعطف جوخ طويل حتى الكعبيين، مع سروال وكنزة من تحت، وحذاء جلدي رطب غالي الثمن ….) ص10

أول لقاء كان للبطل  مع شرطي  تضمن أحكاما  سالبة  (شرطي قصير، وجد نحيف بلباس مضحك لا يناسب قوامه المعوج،  قبيح الوجه برأس طويلة كقبر راحل رضيع، ابتسم له الشرطي بفمه العريض المسوسة أسنانه…) ص10 (وعادت به ذاكرته القوية سنوات إلى الوراء وتحديدا إلى أيام مراهقته الأولى وتذكر ما سبق ووقع له مع صاحب هذه اليد النحيفة والوجه القبيح والرأس الطويلة) توجه بعد خروجه من المحطة نحو أقرب مقهى، فكان أول مكان يزوره (عند وصوله إلى باب المقهى كان أول ما لاحظه وجود شاب وحيد يجلس إلى طاولة قريبة من بابها، ومعه مجموعة من الفتيات القاصرات…

وجلهن ينفثن من بين أسنان وشفاه أفواههن دخان السجائر وفيهن التي تغالب النعاس… كانت عقارب الساعة الحائطية تشير الساعة السادسة إلا ربع قبيل موعد صلاة المغرب) ص17. تعمدت إحداهن بتواطؤ مع الشاب والفتيات الأخريات على التربص به واستدراجه دون فائدة، دخلت فتاة جديدة إلى المقهى ووسوست لها النادلة (إنه رجل غريب خذيه واصطحبيه معك إلى البيت ليبيت معك ربما يكون من حظك) ص18

قد يعتقد القارئ أن هذه البداية السالبة مجرد وصف وأحداث عابرة، لكن بالتدرج ومع الغوص في تفاصيل الرواية  يتضح للقارئ أن الرواية تسير على نفس خطى معظم تلك الروايات السابقة التي تستهدف الكشف عن الوجه السلبي للمدينة، وتقديمها بصور مقززة سالبة تجتمع فيها كل الموبقات… تتلخص سماتها في الفقر والجهل  والمخدرات والدعارة الرخيصة، والمهن الوضيعة ، ناهيك عن التطاحنات التي سادت بين الأبطال دون احترام حرمة صغير أو كبير، ذكر أو أنثى، قريب أو بعيد ، وهضم الحقوق والدسائس والمكائد التي تحاك وهي تنشد فكرة (ما هكذا ينبغي أن تكون المدينة)…

فهذا فقيه ورع حامل لكتاب الله يصلي بالناس  يأكل حقوق اليتامى ويستولي على كل الممتلكات والعقارات ويطرد إخوته الصغار وأمهم (ص 167 وما بعدها) وهي نفس القصة التي حدثت لحميد  الذي يقول (كلنا في الهم سوى فأنا الآخر مع إخوتي وأمي مثلكم هضم حقنا في الميراث من قبل أخينا الأكبر ) ص171… لتقدم الرواية   مدينة لا تعرف القانون (الوظائف والمناصب والترقيات في العمل بهذه المدينة تباع وتشترى كما المأذونيات ورخص البيع والشراء ورخص الامتيازات ، وكل شيء نافع من نصيب الأقارب والمعارف وأصحاب الحظوة ومن يدفع الثمن …) ص177

(بهيجة وأخواتها)  رواية تعتمد جماليات القبح في الرواية، تنهج القبح والفوضى والعبث والشذوذ وتمزق الذات الموجودة في المجتمع الآسفي  متجاوزة معايير الجمال المتعارف عليه من خلال موضوعات ومفاهيم قابلة لتجاوز تلك المعايير، حيث يتضمن القبح الجمالي موضوعات تنسجم مع القبح المعاصر فتبدو مدينة أسفي مدينة يكثر فيها المتسولون والمتشردون، الذين يتخذون التسول مهنة تدر على ممتهنيها أموالا طائلة لا يستمتعون بها: تقول متسولة عن أخرى منعتها من الجلوس مكانها للتسول إنها ( تتوفر على أربعة بيوت من عدة طوابق تكتريها جميعها مع دكاكين وحوانيت أخرى متفرقة بأحياء المدينة وشوارعها العامة، ولها ثروة مالية لا تحصى مع الدور الصغيرة والدكاكين القديمة والقطع الأرضية والبهائم… وها هي ما تزال تمد يدها للمارة ليمدوها بالدرهم ونصف الدرهم …) ص188.

وهي صورة لا تختلف كثيرة عن قصة العوينة المتسول الذي  مات وترك خلفه بنوايل سيدي واصل ميراثا يقول موظف بالبلدية (عملنا على نقله مع فريق من عمال البلدية  بناقلتين طيلة يومين كاملين إلى شاحنات المستودع البلدي…. المال والذهب والفضة والسكر والملابس المستعملة والجديدة والتحف الثمينة التي ما توقعنا وجودها عند أمثاله… يبدو أنها كانت معدة لتباع هي الأخرى بالجملة لتجار الخردة الكبار بالمدينة أو بالمدن المجاورة، كما بيعت أكوام في عدة مرات سبقت من عمره الطويل) كما أكد موظف سام بالخزينة العامة قدر أموال العوينة التي حولت إلى الخزينة بمئات الملايين من الفرنكات  ص189.

لم تترك الرواية صفة سالبة إلا ألصقتها بالمدينة وأهلها من التدليس في المكاييل والغش في البيع، وبيع لحم الجيف، فقد سمع  البطل جزارا يقول بعد أن باع أحد الزبناء خمس كيلوغرامات من اللحم يقول (تعال عندي المرة القادمة لتجدني قد أوجدت لك كيلوغرامات أخرى من لحم جحش أو حمار ميت مسن، مع نقائق من كلب هرم أجرب ومسعور …) ليعلق السارد على الحدث قائلا ( لن أشتري اللحم  يا اخي محمد من هذا السوق أبدا) ص247 ويشيد بأخلاق الجزار اليهودي مايير ولد حنة (الذي يبيع اللحم الحلال مع الخمر المعتقة ) ص 245 …

لقد ركزت الرواية على تصوير مظاهر الفقر حيث عدد من أبناء المدينة وأسرها تعيش على الفضلات والمزابل، وأكل الطيور الميتة (توقفنا على كومة من الطيور النافقة يبدو أنها طرحت بالمطرح للتو من قبل عمال مخزن الحبوب التابع للتعاونية الفلاحية … بسسب تناولها لحبات قمح طري قاتل توضع بأمر من رؤساء فرق العمل بالتعاونية … عندما امتلأ الكيس تناوبنا على حمله حتى البيت بسانية الجمرة … ثم بدأنا في عملية نزع الريش والتنظيف والتقشير قبل تصفيف الطيور المريشة والمنظفة مع الخضر والتوابل في طاجين خزفي كبير … قبل أن يفتح إحدى زجاجتي الخمرة الرخيصة ويبدأ في سقينا بالشراب الذي يعد بالنسبة لنا نحن المحرومين نعمة من أغلى وأشهى وألذ النعم وبعد أن فرغنا من شرب ما بزجاجة خمرة الدومي الأولى نضج سريعا ما بالطاجين … ثم انتظرنا قليلا قبل أن نبدأ في التهام لما بالطاجين من أكل لذيذ شهي تؤكل عليه حقا الأصابع … وبعد الأكل شربنا زجاجة الشراب الثانية …) ص 258/259)

وإذا كانت الرواية ترصد بعض مظاهر الفقر والتسول والتهميش فإن أهم صورة  تتكون لدى القارئ بعد  قراءة الرواية  عن المدينة كونها  ماخورا كبيرا مفتوحا للخمر والدعارة الرخيصة حيث شرف النساء أرخص شيء يمكن أن يشترى، الخمر وكل المخدرات متوفرة في كل مكان، والنساء مستباحات مستعدات دون قيد أو شرط لفعل أي شيء دون مقابل.

ففي أول مقهى تطؤها قدم البطل حاولت كل الفتيات استدراجه، وفي نزل إشبيلية بالمدينة القديمة وفي أول ليلة  تعرِض منظفة الفنذق بهيجة نفسها عليه وتجمعهما جلسة خمر تطورت لعلاقة جنسية ذكرته بالفتاة بهيجة التي أحبها في شبابه بعد توظيفه بفاس، ومنظفة أخرى تأتيه بطاجين سمك يتناولانه سويا يتبادلان عبارات مجاملة (وحين لم يتمالك نفسه استدار بجسمه ناحيتها ثم أمسك بها من ذراع يدها اليسرى بأصابع يده القوية الخشنة وطرحها على ظهرها فوق السرير…) ص50  قد يقول القارئ أن هذه الأوكار قد تكون في كل مدينة ، وقد تكون معدة لمثل هذه الحالات، لكن الرواية تجعلها سمة مميزة للمدينة وأينما ذهب البطل، ففي أول خروج له من النزل وجلوسه في مقهى بالسوق الخانز سأل رجلا  (الكيف هنا موجود بكثرة على ما يبدو؟) كان جواب الرجل (نعم …الكيف موجود هنا وكل المحرمات والممنوعات متوفرة هنا بكثرة) ص53 وفي ذات المقهى  ولج عميد شرطة يهابه الناس حكى الرجل لصالح  تفاصيل حياة الشرطي كيف قدم من الدار البيضاء و(أغرم بفتاة حسناء جميلة …

ابنة سيدة مسنة صماء كانت تشرف على تسيير وكر للدعارة بدرب قديم يتواجد به سجن المدينة الأول العتيق ) ص55  خرج من المقهى ف(دله أحد المارة على الحمام “الدش” وأخبره إن كان من الغرباء وفي حاجة للمتعة ويبحث عن اللذة فما عليه قبل أو بعد خروجه من الدش سوى التوجه لزنقة شريفة التي حج إليها … منحرفون ورعاع من مختلف الأماكن والجهات فسكنوها وحولوها إلى زنقة فساد ودعارة  يباع فيها اللحم البشري بكل ألوانه مع مختلف المحرمات والممنوعات بجميع أشكالها وبأثمان جد مناسبة أو بزجاجة خمر أو علبة سجائر أو اكلة شهية دسمة) ص 39

هكذا تتناسل أوكار الدعارة في الرواية بكل الأمكنة في المدينة (بالزنقة الشريفة المذكورة وأماكن أخرى من هذه المدينة تتواجد العديد من المواخير … تسيرها وسيطات من أعراق وأجناس مختلفة أغلبهن من بنات المدينة الحاضرة ونواحيها أو المدن القريبة والبعيدة ) ص 39/40

وأكثر من ذلك تقدم الرواية نساء المدينة يعرض أنفسهن على المارة  دون أدنى إشارة من الرجال، فها هو السارد في حي الكورس يرى (فتاتين يافعتين تلاعب إحداهن الأخرى وعند اقترابه منهما سمع  واحدة منهما تقول لصاحبتها بصوت تعمدت أن يكون مسموعا وهي تضرب بكف يدها اليمنى مؤخرة رفيقتها ضربات خفيفة وتضحك : تعال يا رجل  فهذه الفتاة أخبرتني عندما اقتربت منا بأنها قد أعجبت بك …

وأنها لفي أمس الحاجة لرجل فحل يعتني بها … ) ص 98  ولما كان  عائدا إلى بيته بعد صلاة المغرب  وقد ترك فيه سلاطة وزيتون  مع زجاجتي صودا ووسكي صغيرتين (اعترضت طريقه سيدة شابة كانت تلتحف لحافا مزركشا برسومات لطيور وعرضت عليه أن يسمح لها بمرافقته إلى البيت لأنها المسكينة كما قالت في أمس الحاجة لرجل تقضي الليل معه في فراشه)  وبعيد الفجر، أثاره صراخ رجل (وقد بح صوته من الصراخ ويقول مؤكدا بأن زوجته تتواجد بداخل العمارة في شقة مع من كان يعتبره بمثابة الأخ والصديق الذي يشاركه الطعام  يأكل معه بنفس الصحن  وعلى مائدة واحدة …) ص99

ماذا حل بنساء المدينة؟ وماذا تريد الرواية تبليغه للقارئ.  وهي تقدم المدينة بهذه الصورة الداعرة معظم نسائها داعرات خائنات ولم تقتصر الخيانة على المعارف بل النساء تعرضن أنفسهن على عابري السبيل ولنستمع للحاج حسين يحكي قصة صديقه الذي رزق بولد أسود ولما تحرى الأمر اكتشف أن زوجته تخونه مع إفريقي (اعترف  أمام المحققين بأنه ضاجعها مرة في بيتها بطلب منها  ومرات لم يذكر عددها في الخلاء وأنها كانت تطعمه وتمده أحيانا بألبسة وهدايا … وأخرج من الحقيبة البعض من ملابسي التي اشتريتها لنفسي وبأموالي  التي كسبتها بعرق جبيني…)  كانت الزوجة الخائنة تقدمها له هدايا ص103،

أما بطل الرواية فلم يقتصر على عشيقة أو محبوبة واحدة، بل كانت النساء تتقاطر عليه كالمطر، حتى ليعتقد القارئ أنه  عاشر كل نساء المدينة، ففي حي الكورس مثلا تعرف على نساء شابات كثيرات وفتيات فاتنات …

صرن يتسللن بالليل والنهار إلى بيته الصغير المتواجد بزنقة الطيران ( ص 104 ) ذكر من أسمائهن الكثير  وهذه عينة صغيرة  في صفحة واحدة ( بهيجة  نعمة ليلى وأختها شادية حنان المرحة ومريم ولطيفة  والأختين سناء وهند وصديقتهما إكرام  وعائشة أم العواويش  وزبيدة ورشيدة وسهام وكاميليا وحنان  التي تعرف عليها قبل زهرة وأريج وفاطمة وهدى ومديحة والسعدية ورباب  بعد أن تعرف على إيمان وإيمان وإيمان ثالثة  ورحاب أخرى  وعلى منى وأمينة وأمنية وسعيدة وسعاد وبشرى  وتذكر كذلك نوال ووداد وسعاد ثانية وكذلك مريم أخرى وفضيلة ونبيلة وربيعة وحياة وكوثر وفرح … وبعدها تعرف على مريم الثالثة السمراء والرابعة البيضاء وأخريات لم يعرف لهن اسم مضوا بعد لقاءات عابرة … بل حتى القاصرات الصغيرات منهن لم يدفع الثمن لهن … كان لكل واحدة منهن سحر خاص ) ص105

هذا العهر لم  يقتصر على أوكار الدعارة والمنازل المغلقة بل نثرته الرواية في كل مكان في الساحات العامة  أثناء عرض أفلام سينمائية، فبدل مناقشة ما تعالجه الأفلام وجدنا الرواية تترك الأفلام لتقدم صورة عما يقع (في الزحام بالصفوف الخلفية وفي الظلمة من أعمال مشينة منها الاحتكاك المتعمد والبث واللمس والضرب على المؤخرات الكبيرة والمتوسطة  ما بين الذكور والإناث، والذكور والذكور،  وبين النساء والفتيات …) ص107

وحتى السوق الأسبوعي (سوق الإثنين) الذي يفترض فيه أن يكون موعدا أسبوعيا للتبضع وتجديد الصلات… تقدمه الرواية وكرا للفساد والدعارة (يقصده اللصوص والمنحرفون للسرقة والنشل والنصب والاحتيال واستغفال العباد، وللبحث عن اللذة في خيام العرافات، ومضارب ضاربات الفال، وبعض الخياطات بمقابل أو بدون مقابل،  ووقوفا بالاحتكاك في زحام حلقات الفرجة والدلالة ولعب أوراق الحظ وبزحمة سيركي الزاز أو بلاكي … حين يلتصقون في الزحام بمؤخرات الغلمان والصبيان والفتيات القاصرات بل وحتى بمؤخرات الغافلين من الشباب والغافلات من النساء البالغات السمينات من اللواتي يرغبن هن الأخريات في ذلك، فيقدمن لهن التسهيلات بتصنعهن الغفلة وعدم الانتباه…) ص 238

إن العلاقة بين المرأة الرجل من خلال الرواية علاقة مأزومة، غير مفهومة ويصعب إيجاد تبريرات منطقية لمثل تلك العلاقات ، فلننظر كيف انطلقت فتاة في سب وشتم مسؤول عن سينما، ليعتدي عليها أمام الملأ بضربة كادت تقتلها ( من غير تهديد أو وعيد للفتاة ، رفع إلى أعلى فوق رأسه عصاه ، ثم نزل بها على كتف الفتاة  ورأسها ضاربا إياها ضربة قوية ، شجت رأسها ، قبل أن تسقط على الأرض عند قدميه لتبدأ في الصراخ وتتمرغ على زليج أرضية بهو الصالة عند شباك التذاكر …) ص 200.

قد تبدو العلاقة بين المرأة والرجل في أشد توترهاـ لكن ومباشرة بعد انطلاق العرض السينمائي وذهاب السارد للمرحاض يتفاجأ بالفتاة في مكتب المسؤول (وقد أنزل سرواله والشابة الحسناء التي خاصمته وشتمته، بالضمادة على رأسها، جاثية على ركبتيها وقد أمسكت بكلتا يديها شيئه الكبير وانهمكت في رضاعته بكل جدية ولهفة بشفتي فمها الجميل الذي أخرجت منه وابل السب والشتم ) ص 203/204… في غياب أي مبرر لا يملك السارد إلا أن يقول (أنها مسكينة من البغايا الصغيرات اللواتي تعودن على اصطياد زوار المدينة من الأجانب بشارع الرباط.) ص 204 …

ولا يقف هذا التفسخ عند هذا الحد بل ينخرط فيه المسؤولون في المؤسسات الرسمية الذين يستغلون نفوذهم في استدراج القاصرات. يحكي سارد كيف كانت بهيجة وهي قاصر تأخذها ابنة عمتها إلى جلسات ( رجال من أصحاب السلطة والمال ومن الأجانب البيدوفيليين الباحثين عن اللذة في أجساد الصبايا والفتيات القاصرات الجميلات ) ص236

وليس أصعب على النفس من تخيل إغاثة الملهوف والنكث به، كما فعل أبو الشتاء لما كان يحتسي الخمر في الشعبة مع صديق له وسمعا فتاة تستغيث وتصرخ فأغاثاها وخلصاها من المعتدين… اقتداها إلى غار واعتديا عليها وهي مريضة القلب وتعاني من الربو فاختنقت وماتت تحته يقول السارد (ظنها لإفراطه في الشراب وسكره أنها تتعمد استغراقها في النوم، وأنها تلجأ للعبة “موتة حمار” ) ص185/ 186.

وتتجلى هذه العلاقة المرضية، وأزمة الجنس في أوضح صورها  من خلال علاقة البطل بزوجته بهيجة، إذ تبدو علاقة عصية على الفهم تضرب كل القيم عرض الحائط، وتحطم الرموز والثوابت،  فما أن رآها وأغرم بها وهي قاصر حتى أرسل إليها السكيرة زينب للتوسط واستدراجها. فقصدت السكيرة البيت من بابه وتحدثت مع أم بهيجة وكانت المفاجأة في رد الأم،  وهي تقدم ابنتها لرجل غريب في محارة تقول الأم (مرحبا به في أقرب حال وألف مرة على الرحب والسعة البيت بيته إن هو أرادها… هي له متى أرادها للمتعة أو للزواج أو لهما معا ولكل شيء بالطبع يا زينب ثمنه…) ص 118 . ترفع السكيرة البشرى لصالح وهي تشيد بدور الأم ورمزية الأم (إنها في نظري الآن لمن الأمهات الرائعات وستبقى كذلك في نظري إلى الأبد) ص 118

لتقدم الرواية زواجا من نوع خاص المال فيه وحده مفتاح كل الأبواب الموصدة، ما دام قادرا على أن (يجعل من القبح حسنا ومن الحمار غزالا ولو بأذنين طويلين فيقال عنه يا له من حمار جميل كالغزال) ص125 . الرجل يطلب من بهيجة الزواج على سنة الله ورسوله وهي  تصر قائلة ( فليكن زواجنا بلا رابط أو عقود أو مستندات بل وحتى بلا ليلة زفاف وذلك حتى يبقى كل منا طليقا يذهب في حال سبيله متى شاء … هذا هو الزواج الذي أفضله … إنه زواج هذا العصر) ص 162/163.

والرجل يصرف كل ما يملك على زوجة لا تعترف بآصرة الزواج  ولا بقدسية الميثاق الغليظ، ففي أول خرجة لهما اشترى لها صالح (المزيد من الملابس العصرية والتقليدية والعديد من الأحذية والشباشب، قبل أن يقتني لها من شارع رباط الشيخ صالح عطورا ومعاطف وساعات ومنامات وملابس داخلية، ولم ينس بأن يزيدها من الذهب والمجوهرات وأكسسوارات الزينة الغالية الثمن، مع المزيد من الهدايا الأخرى لها ولوالدتها ولصديقتها حنان. وقبل أن يودعها بهرايات البيض ناول بهيجة ظرفا أصفر مقفل ثقيل، ثم زادها أكثر من عشر ورقات مالية من فئة مائة درهم وأخرى لصديقتها) ص127 .

وظل على  مثل هذا السخاء طيلة علاقتهما، فقد قضى معها خمس سنوات وسبعة أشهر… صارت بعدها بهيجة امرأة شابة مكتملة ناضجة لها من العمر 23 سنة وقد صارت سيدة ميسورة لها أملاك وعقارات وأموال كسبتها كلها تقريبا من صالح … فتح لها حسابا بنكيا وأجرى لها فيه من السيولة ما يكفي …قبل أن يشتري لها من ماله الخاص سيارة رياضية من النوع الفاخر تليق بمقامها وجمالها ) ص 127  وصارت من أعيان المدينة يذكر منها أسماء لشخصيات موجودة فعلا بالمدينة مثل (إسماعيل والكيلاني والطنطاوي والتهامي والصديقي واشنيولة سلطان الحديد كما يسميه الميكانيكي عبد القادر والشقوري والحاج عبيد …) ص127 مما يوهم القارئ بواقعية الأحداث.

طيلة علاقتهما والزوجة مهوسة بالخمر والرقص تسهر الليالي في الحانات بعيدة عنه، ولا يستطيع مناقشتها في الأمر، لا يملك إلا أن يتسلل إلى الحانات ليتفرج عليها وهي ثملة ترقص… قد يهددها في قرارة نفسه فيقول ( ارقصي أيتها العاهرة ارقصي الآن كما يحلو لك يا ثقيلة الأرداف عندما تحضرين إلى البيت سوف أقت…)  ص 225 . وقد يزبد  ويرعد داخليا  (يا لها من خائنة وعاهرة عند عودتها إلى البيت سوف تدفع ثمن خيانتها…) ص226 .

يعيش صراعا نفسيا مريرا، لكنه لا يستطيع أمامها تحريك ساكن، بل قد تأخذه معها إلى بعض حفلاتها الراقصة في بعض الأعراس  يقول في أحدها (كان عرسا جد رائع لأن الشراب كان فيه متوفرا وبزيادة أكثر وبكل أنواعه ) ويعودان ويتابعان شرابهما في البيت (على مائدة الأكل ببيت الزنقة الخامسة في الحي العريق سانية الجمرة سكب صالح من زجاجته خمرة الفالبيير  كأسين وقدم إحداهما للغالية وشرب هو أخر في جرعة واحدة…) ص 231 .

لا يثير فيه نومها بالبيت أو خارجه ، ولا نومها معه أو مع غيره  أي ردة فعل (وقد كان معنا كبور الذي ما يزال نائما في فراشه بالغرفة الأخرى مع بهيجة الحلوة اللطيفة)… يعرف جيدا أنها تخونه، يقول (أثناء مهاتفتها سمعت وشوشات وضحكات رجال ونساء فعدت للبيت وأنا جد مقتنع بأن العاهرة الفاتنة مشغولة تلك الليلة بسهرة مع غريب يكون دفع لها مقابلا محترما ومغريا للسهر معه ) ص171،  يعامل زوجته كالعاهرة  يضاجعها في بيت وسيطة ويدفع لها مقابل مضاجعتها يقول (اصطحبتها معي في سيارة أجرة إلى بيت الوسيطة فاطمة وهناك ضاجعتها بشبق مقابل مبلغ مهم من المال وسلسة من الذهب الأحمر الخالص كنت اشتريتها لأهديها إياها بمناسبة عيد ميلادها) ص271…

تارة يظفر منها بقبلة وتارة بمعاشرة وأحيانا كثيرة  يتابعها ويتلصص على مغامراتها في الملاهي الليلة (ولكي أطلع على ما يجري بداخل الملهى اضطرني الأمر كي ألجأ إلى عادة التلصص المقيتة هكذا فكرت… وتسلقت شجرة كبيرة عالية وارفة لأرى ما يجري ويحصل وراء سور الملهى … وأتابع فقرات من برنامجه فيها رقص وعري ورذيلة) ص272 . أو في الأحياء الراقية ( رأيت سيارتها متوقفة أمام إحدى الفيلات التي يكتريها الأجانب فقررت البقاء هناك أنتظر بجانب سور الفيلا …

توقفت سيارة كاديلاك  منها نزل رجل أجنبي أشقر الشعر… من بعده نزلت من باب الجهة الأخرى للسيارة مومس جميلة وعالية… تبين لي بالتأكيد (أنها) لم تكن سوى زوجتي اللاهية الزاهية بهيجة الزانية)  وعندما يلتقي بها لا يناقشها ولا يعاتبها  بل يتظاهر بحبه لها  (وبعد أن التقيت بها في اليوم الموالي وأخبرتني بأنها قد باتت ببيت أهلها قلت لها كم أنت جميلة يا حبيبتي…) ص275

وفي الوقت الذي كان القارئ ينتظر تطورا للأحداث إلى نهاية مأساوية. تنتهي الرواية بانسحاب البطل بعد بيعه البيتين المتبقيين من الميراث، والعودة إلى فنذق إشبيلية باحثا عن بهيجة منظفة النزل التي ضاجعها في أول يوم له بالحاضرة، ولما علم أنها تزوجت وسافرت مع زوجها إلى الخارج، قرر مغادرة المدينة، وأثناء خروجه من النزل سلمه مسؤول في الاستقبال ظرفا يحتوي على رسالة من مدام فلورونس صاحبة الفندق تضم وثيقة ميلاده تثبت أنه ابنها مكتوب فيها ( صالح بن جلال و فلورونس جيرودي المزداد يوم 12 يناير 1945)  ص 314  يركب الحافلة ويعود من حيث أتى دون أن يكلف نفسه عناء قراءة الوثيقة.

هكذا تخيب نهاية الرواية ما كان ينتظره القارئ لتفتح أمامه تكهنات بناء أحداث رواية  أخرى…

وإلى جانب الدعارة وأزمة الجنس، ركزت الرواية في الوجه الآخر للصفحة على قضية أخرى رافقت البطل في معظم تحركاته منفردا أو وسط جماعة، ألا وهي الخمر، فقدم المدينة كما لو أنها حانة مفتوحة، الخمر المخذرات  فيها من أكثر السلع رواجا، فهي لم تفارق البطل في معظم مشاهد وأحداث الرواية، هكذا جعلها سبب الكثير من الصراعات والمشادات والخيانات، فزائر السوق الخانز ـــــــ كواحد من أهم الأسواق الشعبية بالمدينة ــــــــ يشاهد كيف (تحصل مشاكل وصراعات ومصارعات ومعارك غالبا ما تنتهي بمآسي صادمة،  وكثيرا ما تحدث لأسباب تافهة تدور بين خنازير من البشر الأغبياء وغير الأسوياء … الذين تبلعهم كبسولة أو قرص مخدر وتشربهم كأس من الخمرة الرخيصة. وتلي تلك المشاحنات … حملات اعتقالات عشوائية تقوم بها الشرطة دون أن تميز فيها في الغالب بين الخير والشرير من الناس) ص43 . واينما ذهب تعرض عليه المخدرات، فما أن جلس بمقهى حتى سأل النادل عن كيفية الحصول على السجائر والمشروبات الكحولية المهربة ليبين له النادل وفرة العرض وسهولة الحصول عليه، وحدره من خداع ومكر الوسطاء…

إن رواية (بهيجة وأخواتها) تجول بالقارئ في معظم حانات المدينة وهي كثيرة ومتعددة في مختلف الأحياء يمتلكها أناس من جنسيات وديانات مختلفة من مسلمين ويهود ونصارى فنرى البطل وصديقه قد خرجا (من متجر الخمار اليوناني ديميتري اصطحب الصديقان معهما زجاجة نيكريتا وأربع زجاجات من سعة الثلاثة أرباع من عنب خمرة الفيوباب الحمرء القانية …) ص 209. ينتقل إلى حانة أخرى حيث (شربا هناك بحانة جوزيف ما تيسر لهما شربه من زجاجات جعة الفلاك بليس وجعة اللقلاق تلك الجعة المحلية التي تسمى عن أبناء الحاضرة بعائشة الطويلة  كانت حانة النورس مليئة بروادها السكارى من أبناء المدينة وغرباء عنها من أجناس وجنسيات مختلفة… الزحام بها كان شديدا ) ص 92 . عند خروجهما بعد العصر بقليل من مقهى وحانة “زانزيبار”… حيث تناولا طعام الغذاء وشربا من الويسكي ما يكفي … ثم قصدا رأسا إلى “السانديكا” … وبجرف المرسى الكبير بحفرة من حفره جلسا على قطع الكارتون … وبقيا هناك يشربان ويتفرجان على فتوات المدينة، يتنافسون في الغطس ويتسابقون بالعوم والدوران … ثم العودة إلى أسفل الجرف ليجلسوا على صخرة مسطحة ويشربوا هم وآخرون بعضا من كؤوس خمرتهم )  (ص182 وما بعدها بتصرف)

الغريب أن هؤلاء الذين تحكي عنهم الرواية ليسوا متشردين أو لقطاء وإنما فيهم أطر ومربون وأساتذة اختار لهم السارد أن يعيشوا في الحانات وبين أحضان العاهرات، لا هدف لهم إلا أن (يشربوا ببعض حاناتها الكثيرة …) ص182  ويتسكعون بين (حلقات أوكار القمار السرية أو المعلنة المنتشرة في الكثير من أزقة أحياء المدينة)  ص 139 .

الرواية لا تكتفي بحياة البطل وإنما تبين أن تناول الخمر سلوك عادي بين الأسر، فلا يخلو بيت قصده البطل إلا وقدم له الخمرـ والناس يخزنون الخمر في منازلهم كما تخزن مختلف المؤن والكتب، فها هو البطل يزور بيت الخباز الذي يقول فيه (هو أصغر من البيتين الآخرين جعلتُ منه مخزنا لمؤونة العيش وبالأخص تلك التي لا يصيبها التلف بالقبو تحت تحف من مخلفات آباء وأجداد أسرتنا الكبيرة الشرفاء. وصناديق خمر عتيقة وصناديق أخرى بها مجلدات وكتب ودواوين ثمينة …) ص213

وحتى حقيبة المقدم ـــــــ ممثل السلطة ـــــ الجلدية التي يتأبطها كل يوم ويحافظ عليها أكثر من عينيه، والتي حيّر حرصه عليها البطل والسارد وكل من يعرف المقدم، انكشف سرها يوم رماه صبي بحجرة وهو جالس (على كرسي أمام مكتبه المتواجد قريبا من خمارة مدام علال ومخبزة اليهودي ) فطارد المقدم  ذلك الصبي، يقول السارد ( عثر فسقط أرضا مباشرة أمامي – بعد أن سمعت تكسير زجاج – اندلق سائل أحمر قاني تنبعث منه حموضة عنب خمرة الدومي الرخيصة… وبأسرع ما يمكن وقف المقدم من سقطته ونفض ما بمحفظته من شظايا زجاجة خمرته المتكسرة والكأس التي كانت معها … منذ ذلك الحين وأنا أعرف سر الأمر الذي يحمله معه في محفظته القديمة الحمراء مقدمنا العزيز) ص75

صحيح أن السارد كان يعبر عن موقفه من القضايا التي يعالجها، ويرفض بعضا من تلك المظاهر التي رصدتها الرواية ويعتبرها من (طيش وعدم إدراك المرء لعواقب الأمور … ومرافقة السوء الأشرار) ص186، وقد يحمل المسؤولية للسياسة المتبعة،  والساسة  الذين (حين تسلموا السلطة وتولوا مقاليد الأمور في بلدنا حكموا بسياسة العصا وخططوا لسياسات التفقير والتجويع ) ص186 ، كما أشاد بعدد كبير من الرجال  والأسر ومدح مواقفهم  وذكر أسماء شخصيات كثيرة لازالت على قيد الحياة  يقول مثلا في بعض رجال حي تراب الصيني (حي الرجال الأبطال الصناديد  من رجال المقاومة والكفاح والنضال ضد الأجنبي الدخيل وزبانيته من المرتزقة والخونة المأجورين.  حي شباب المدينة الأبي النقي العقل والمثقف؛ حي دبوح وتيتوح ودحدوح ولحبيبي ولمبيوق وميفراني والولادي والأب صالح والبوشتاوي وبوتور وغيرهم من  الرجال الأبطال المناضلين والفدائيين الأفداد بحق… حي الزقيوة وعبد القادر وحسن وعيسى والصاحبي وحقيق ومصطفى اللب والخضر… حي نجيب وعيسى والمتوكل … )   ص 206 ومثل هذه المقاطع كثيرة في الرواية…

لكن الرواية نجحت في تقديم صورة عن المدينة مثلها مثل معظم الروايات التي كتبت عن آسفي، التقطها السارد من زاوية معينة لأهداف تخدم تطور أحداث روايته،  صورة تغلب عليها القتامة تستبطن رغبة في أن تكون المدينة أحسن مما هي عليه، معتمدا توظيف جماليات القبح وسيلة للتعبير عن أفكار وقضايا تخص  تصوره للعمل الفني والبناء الروائي  برصد تجليات القبح الواقعي غير المقبول أخلاقيا واجتماعيا ودينيا.  فتغدو لتشوهات المجتمع  وانحرافاته  دلالات ومعاني مقصودة لذاتها القبح فيها قيمة إيجابية تدعم عملية التعبير، وإلا لماذا لا يتردد السارد  في إعلان حبه لمدن أقل جمالية من مدينته، والتركيز على جمال مدن  صغيرة زارها كما في قوله (مدينة بومالن دادس الجميلة جدا) ص136. مع الإشارة إلى أن الجمال والقبح في الطبيعة غير الجمال القبح في الفن والرواية.

الحلقة القادمة مع صورة أسفي في رواية فاطمة المعيزي (ماتبقى من ذاكرة الرماد).

          

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى